عبسي سميسم عبسي سميسم

أهالي (مزرعة نصري) في حي «جوبر» بالعاصمة.. المحافظة تريد اقتلاعهم من بيوتهم، ووعود بالسكن للبعض.. والبقية إلى الشارع!!

يبدو أن محافظة مدينة دمشق لم تتعلم من درس (كفرسوسة) ولم تدرك بعد أن سلبها لبيوت مواطنين فقراء بغير وجه حق قد يؤدي إلى تداعيات وممارسات هي بغنىً عنها؛ فبعد أن قامت بمحاولة فاشلة في كفرسوسة، أرسلت إنذارات إلى أهالي حي (مزرعة نصري) في حي جوبر الواقع شرقي العاصمة، تبلغهم فيها بوجوب إخلاء منازلهم خلال شهر واحد تمهيداً لهدمها، كما أبلغتهم بضرورة تهيئة الأوراق التي تثبت ملكيتهم لبيوتهم بموجب القرار (1124) لعام 2004، أي (إما عقد إيجار يعود تاريخه إلى ما قبل عام 1974، أو صك ملكية يعود إلى ما قبل هذا التاريخ)، لتعد كل من أنهى أوراقه بسكن بديل.
وبعد مدة قصيرة من توجيه الإنذارات، أرسلت المحافظة آليتي هدم لاختبار قدراتها في تلك المنطقة، واختبار مدى تمسك الأهالي ببيوتهم، فقام الأهالي بتكسير الآليتين وطردهما من الحي «حسب أهالي الحي»، ولكن الأمور بالتأكيد لن تتوقف عند هذا الحد..

 الـ(1124) قرار وزاري
يخالف الدستور ويجيز سلب البيوت!

إن القرار 1124 الذي تعتمد عليه المحافظة في تحديد مستحقي السكن البديل، هو بلا أدنى شك قرار ظالم أصدره وزير الإسكان عام 2004، إذ أن هدفه الوحيد، كما يبدو، هو التخفيف قدر المستطاع من عدد الناس الذين يستحقون سكناً بديلاً في المناطق المستملكة أو المناطق التي سينفذ فيها التنظيم، وذلك بإلغائه لجميع حقوق الساكنين (التي منحهم إياها الدستور، ومنحتهم إياها القوانين) في إثبات ملكيتهم لبيوتهم، واقتصار القرار على اعتماد صك الملكية قبل عام 1974 أو عقد الإيجار قبل هذا التاريخ.. علماً أن القانون يجيز إثبات الملكية بكل الوسائل الممكنة (ساعة كهرباء، عداد مياه، مكان الدراسة...الخ)، وبما أن صانعي القرار يعلمون أنَّ الناس في تلك الفترة، لم يكونوا يعتمدون بشكل كبير على عقود الإيجار، إذ أن الإيجار في تلك الفترة كان يعتمد على الثقة، مجرد الثقة!! كما أن البيع كان في معظمه يتم عن طريق الكاتب بالعدل، (وهو جهة مرخصة من قبل القضاء السوري)، وأن كثيراً من معاملات البيع والإيجار كانت تترك معلقة.
لذلك فقد لجؤوا إلى إلغاء كل وسائل الإثبات الأخرى واستخدام وسائل تعجيزية، بإجبار الناس على إنهاء معاملات عمرها 35 سنة خلال فترة لا تتعدى الشهر، وإلا فسيخسرون بيوتهم. وبذلك يتمكنون من حرمان أكبر قدر ممكن من مستحقي السكن البديل.
 
البوح المر

 (قاسيون) حاولت استطلاع ما يجري على أرض الواقع فقامت بجولة ميدانية في حي (مزرعة نصري) والتقت ببعض السكان المتضررين، كما زارت محافظة دمشق للإطلاع على رأيها بهذا الموضوع:
السيد فهد كيال قال: اشترينا منزلنا في عام 1972 عن طريق وكالة غير قابلة للعزل ونحن ثلاث عائلات تسكن في بيت مساحته 5 قصبات عبارة عن 6 غرف ومنتفعات عدد (2) ومع ذلك لم تعترف المحافظة بهذه الوكالة بحجة أنها تريد صك ملكية من الطابو وأضاف السيد فهد: إن عملية تثبيت الملكية عملية مكلفة إضافة إلى أن المهلة التي حددتها المحافظة غير كافية لإنجاز هذه الإجراءات.
 
حتى الرصيف غير متاح لهم!
 
أما زوجة السيد حسن صيداوي فقد أكدت أن منزل زوجها مشيد منذ عام 1958 وكان يملكه والد زوجها وقد تم نقل ملكية البيت إلى اسم أخ زوجها سنة 1969 ومن ثم انتقلت ملكيته إلى اسم زوجها في عام 1984 مع ذلك المحافظة لم تعترف بكل هذه الثبوتيات وقررت أنهم لا يستحقون سكناً بديلاً وأضافت: إن راتب زوجي هو 5200 ل.س ولا يوجد لدينا معيل سوى هذا الراتب الذي نعيش عليه أنا وزوجي المريض وأولادنا الستة فبأي حق سيرموننا في الشارع ويسلبوننا بيتنا دون أي تعويض أو سكن بديل علماً أن بيتنا مؤلف من أربع غرف ومنافع عدد 4، ولدى سؤالنا عن لجنة المسح الاجتماعي ورأيها بوضع بيتهم أجابت: قال لنا موظف المحافظة أنتم غير مستحقين لا تعويض ولا لسكن بديل فقلت له وهل سنذهب إلى الرصيف أجابنا باستهزاء: إذا قررتم الذهاب إلى الرصيف فعليكم أن تدفعوا لنا إشغال رصيف.
وتساءلت السيدة إذا كانت ملكية البيت قد نقلت من أخ زوجي إلى زوجي بعد عام 1974 فهل يحق للمحافظة أن ترث البيت ولا تعطي أحداً سكناً بديلاً.
 
أساليب تعجيزية للاستيلاء على المنازل

السيدة كوكب الشمعة قالت: اشترت والدتي البيت الذي أسكن فيه حالياً عام 1986 عن طريق صك ملكية (طابو أخضر) وفي عام 2002 توفيت والدتي وأجرينا معاملة حصر إرث نظامية اشتريت بموجبها جميع حصص إخوتي الذين تنازلوا عن حصصهم عن طريق الكاتب بالعدل، وصار البيت ملكي وسكنت فيه. وفي عام 2006 جاءت لجنة المسح وحددت مساحة البيت وسجلته باسمي كما سجلت زوجي وأولادي كمقيمين معي في البيت وبعد شهرين عادت اللجنة نفسها، وكنت وقتها قد أجريت عملية جراحية اضطررت بسببها للسكن عند ابنتي ريثما تتحسن حالتي الصحية وبسبب الظروف المادية الصعبة التي نجمت عن وضعي الصحي فقد أجرّت البيت لمدة أربعة أشهر لأستفيد من أجاره في تغطية بعض النفقات، فاعتبرت اللجنة التي وجدت المستأجرين في البيت أنني لست بحاجة إليه وأنني لا أستحق سكناً بديلاً، والأنكى من هذا أن وزارة الأوقاف وهي الجهة المستملكة قد فرضت علي مبلغ 95 ألف ليرة سورية. وأضافت السيدة كوكب: إن المفارقة التي حصلت هي أن الذين استأجروا عندي كانوا قد اشتروا بيتاً منذ سنة ونصف قرب بيتي ومع ذلك فقد استطاعوا أن يدبروا رأسهم مع المحافظة وأن يحصلوا على سكن بديل لمنزلين. وأضافت السيدة كوكب: يوجد في مزرعة نصري ـ طريق المواصلات ـ أملاك دولة تم تشييد مبان عليها عن طريق الاستيلاء، وقد صدر قرار استملاك لكامل العقارات الواقعة على هذا الطريق برقم 3678 تاريخ 10/7/2005، ووجهت إنذارات حينها لقاطني تلك العقارات، ولكن بما أن معظم شاغلي تلك العقارات من ذوي النفوذ، فقد تم تغيير مسار الشارع، وحوّل إلى تنظيم شرقي باب شرقي الذي نقطن فيه، ووجهت لنا إنذارات لتنفيذ المخطط دون إعطاء سكن بديل لمعظم من يسكن في هذه المنطقة. وأضافت أن المحافظة تكذب على الصحافة وتقول إن 90% من الشاغلين استحقوا سكناً بديلاً، وهذه الكذبة قد فبركتها المحافظة لتضليل الرأي العام، فهي قد قسمت المنطقة إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ منطقة تنظيم شرقي باب شرقي.
2 ـ منطقة استملاك 1982.
3 ـ منطقة حارة معمل الزجاج (امتداد شارع العباسيين) فقد تكون نسبة المستحقين في إحدى هذه المناطق قد وصلت إلى 90% أما نحن فأكثر من 70% منا لم تعطه المحافظة سكناً بديلاً.
أما السيدة سمر هلالة، فقد أكدت أنها أرملة وتعيل أربعة أولاد، وأضافت: اشترى زوجي المنزل في عام 1980 وقمنا بتسجيل البيت (طابو أخضر) باسم زوجي المتوفى، ولما جاءت لجنة المسح، سجلت البيت على أنه محدث! وتساءلت السيدة سمر: كيف يسجل بيت بصك ملكية (طابو أخضر) إذا كان مستملكاً؟؟ وأضافت: ألا يكفي إشغال البيت لـ27 سنة لكي نستحق سكناً بديلاً؟؟
 
اشترى في التنظيم هرباً من الاستملاك فخسر بيته الجديد!!

السيد خالد السحلي، كان يسكن في منطقة الاستملاك، فأراد أن يريح باله ويضمن بيته، فباع بيته في منطقة الاستملاك، واشترى عام 2001 بيتاً في التنظيم كلفه مليون ليرة سورية، لكنه فوجئ أن بيته سيذهب في الشارع، وأنه لا يستحق سكناً بديلاً كون بيته محدثاً، علماً أنه مسجل بالطابو.
أما السيد علي بكور فقد جاءت لجنة المسح في الفترة التي كانت بها عائلته في القرية لإعداد (المونة)، وكان هو في وظيفته أثناء الدوام الرسمي، فسجلت اللجنة بيته على أنه (مغلق) وبالتالي فهو لا يستحق سكناً بديلاً!!
 
محمد العبد الذي أبكى الجميع

بينما كنا نستمع للقصص المفزعة والمأساوية لأهالي حي مزرعة نصري، دخل رجل في العقد الرابع من العمر ضخم البنية ذو شاربين كثيفين تدل ملامحه على القوة والقسوة، ظننت للوهلة الأولى أنه قادم ليتعارك معنا، ولكنه عندما وصل إلينا وجدنا فيه إنساناً، طيباً، وديعاً ومحبوباً من جميع أهل الحي، ولما سألناه عن قصته مع المحافظة، تغير لونه، وما إن حاول الحديث حتى توقف الكلام في حلقه وحبس دمعه، ولكنه كابر على نفسه وحاول أن يخفي غصته بين الأوراق التي صار يخرجها من جيوبه و(التي تثبت ملكيته للبيت الذي ورثه عن جدّه)، ولكنه لم يصمد طويلاً، فانفجر ببكاء أبكى كل من كان حاضراً، صرخ فينا والدموع تنهمر على خديه:
هل تعلمون أن طعامي أنا وزوجتي وأطفالي مقتصرٌ على الخبز والزيت؟! وهل تعلمون أن الزيت قد نفد الآن من البيت؟؟!.. وهل تعلمون أنني أسكن مع زوجتي وأولادي الثلاثة في غرفة واحدة تكاد لا تتسعنا؟!.. واسترسل بلغة هيستيرية: هل تعلمون أن ابنتي أصبحت صبية وهي تنام معنا في نفس الغرفة التي أنام فيها أنا وزوجتي؟؟ وأضاف نحن أناس مستورون لا نريد شيئاً من أحد، ولا نتذمر من شيء، فلماذا يريدون أن يرمونا في الشارع؟؟
إنه محمد العبد الذي شعر بالعجز رغم كل الرجولة التي يتمتع بها، شعر بأن بلده تلفظه إلى الشارع.. تجعله وأسرته ينتظرون مصيراً مجهولاً، بالرغم من أنه يفعل ما بوسعه، ويتحمل كل ضغوطات الحياة.
بعد أن هدأنا نفس الرجل قليلاً، حدثنا عن وضعه مع المحافظة إذ قال: نحن ثلاث عائلات نسكن في منزل مساحته 4 قصبات مؤلف من طابقين، يسكن أخي وعائلته وأمي الأرملة في الطابق الأول المؤلف من ثلاث غرف ومنافع، بينما أسكن أنا وعائلتي المكونة من خمسة أشخاص في غرفة ومنافع في الطابق العلوي، ونحن نملك هذا البيت منذ العام 1962 وقد توفي والدي قبل جدي في عام 1980، فعمد جدي إلى نقل ملكية البيت إلى اسمنا عن طريق عقد بيع قطعي مصدق من الكاتب بالعدل، ولما جاءت لجان المسح سجلوا لي غرفة وموزع ومنافع، وسجلوا في الطابق السفلي لأخي وأمي ثلاث غرف ومنافع، ولما راجعت المحافظة، فوجئت بأنني غير مستحق للسكن البديل، فتقدمت باعتراض إلى المحافظة فطردني الموظف ولم يقبل اعتراضي؟؟!!! وبعد مراجعات عديدة للمحافظة طلبوا مني أن أكتب عقد إيجار بيني وبين أهلي بتاريخ قبل عام 1974، فقلت لهم إنني في ذاك التاريخ كان عمري لا يتجاوز الخمس سنوات! فقالوا لي: اكتب عقد ونحن ندبره لك!!!
 
جلطات ووفيات ووعود من المحافظة

السيد جريوس جواب قال: طلب المحافظ مقابلة أربعة أشخاص من كل حارة ستهدم، وكنت من بين ممثلي حارتنا، وكان من بين الذين اجتمعوا بنا إضافة إلى المحافظ مدير التخطيط والتنظيم العمراني وقائد شرطة دمشق ورئيس قسم شرطة جوبر وقد وعد المحافظ خلال الاجتماع بتسليم كل شخص أنهى أوراقه الثبوتية وفق القرار 1124 سكناً بديلاً في أبراج الزبلطاني التي ستبنى مستقبلاً، ومن لا يستطيع الانتظار فقد وعد بتسليمه سكناً بديلاً في الحسينية بشكل فوري. وبالنسبة للناس الذين يسكنون في مزرعة نصري قبل عام 1974 ولم يستطيعوا إثبات ملكيتهم وفق القرار 1124، فقد وعد بتعديل هذا القرار ليتمكن معظم المستحقين من إثبات استحقاقهم للسكن البديل.
وأضاف السيد جريوس: لقد عانى جميع سكان الحي من هذه الإنذارات التي شكلت لهم رعباً حقيقياً يهددهم في مسكنهم، وأنا واحد من الناس الذين أصيبوا بجلطة قلبية نتيجة الضغط النفسي الشديد الذي تعرضنا له، وقد مكثت في العناية المشددة ونجوت بأعجوبة من الموت، وهناك ثلاثة آخرون أصيبوا بجلطات مماثلة منهم: شكري الطحان، وزهرية الزحيلي التي أصيبت بجلطة وماتت إثر سماعها خبر اقتلاعها من منزلها...
 
في محافظة دمشق

في محافظة دمشق وجهنا رئيس المكتب الصحفي إلى المهندس عبد الفتاح إياسو مدير التخطيط والتنظيم العمراني في المحافظة لأخذ رأي المحافظة حول موضوع حي مزرعة نصري، ولكن السيد إياسو رفض الحديث دون كتاب رسمي من السيد المحافظ، واتصل برئيس المكتب الصحفي د.أنطون شار الذي دعانا إلى مكتبه وقال إنه بصورة الوضع وإن مشكلة حي مزرعة نصري قد حلّت تقريباً، وإن عدد المتضررين هو 250 عائلة، منهم 200 عائلة مستحقة، أما بالنسبة للآخرين فإن أوضاعهم قيد الدرس حالياً، وأضاف د.أنطون أن السيد المحافظ قد خير الناس المستحقين بين استلام سكن بديل فوراً في الحسينية، وبين الانتظار سنة ونصف لاستلام سكن بديل في مدينة دمشق، كما وعدهم بتعديل قرار وزير الإسكان. ولم نتمكن من أخذ أية معلومة عن وضع الحالات التي طرحها الناس والذي حكمت عليهم المحافظة بأنهم لا يستحقون السكن البديل.