هشام.. ما لَكَ استعجلتَ الرحيل؟؟

ثقيلة هي الحياة علينا حين يرحل عنا من نحب. غادرنا هشام في خميس غريب من أيار.. كان يوماً ماطراً، وكنا نقول: إن السماء حنونة علينا حين تجلب المطر، وإن المطر خير. لم يخطر ببالنا أن هذا التشابه المريب بين أيار الحصاد وكانون البرد والثلوج سيخفي خلفه الأسوأ، كان ثمة اختلاف بسيط: برد قليل ومطر غزير..

بقينا نقول: الله يبعث الخير، ولكن هذا المطر ليس في أوانه، هل ثمة انقلاب طبيعي؟ هل ثمة ما ينذر بشؤم؟ أسئلة بسيطة تعالجها روحنا بصمت، المطر خير، ألهذا رفضت الطبيعة إلا أن تفجعنا بيوم خير؟؟. ألهذا كفت الأسئلة البسيطة الصامتة بحزن واخز ودموع غزيرة كمطر أيار؟؟ حزن يقهر داخلنا ويذكرنا بأن الراحل غالٍ جدا على قلوبنا، غادر وفي داخله حب الحياة، أفكار، مشاريع كتابات، قصص، طقوس فرح، سهر، دردشات، تراث، حاضر ومستقبل، ينثرها في كل الجلسات بورد الكلام ودخان سيكارة، وفنجان قهوة وكأس متة وصحن مازة، يتلقفهما بسرعة وكأنه يتعجل الوقت، يتعجل التمتع بالحياة خوفاً عليه من سرعة الموت. يملأ هشام الجلسة بدفق الحوار، دقة التصور وعمق التحليل ولسعة النقد الصريح، الذي يفاجئك بحضور مرح فتبتسم معه، تشاركه جرأة شخصيته، تسامحه، وبساطة نظرته للأمور مع أعقد المشكلات والأزمات، تراه يسخر ويحلل، تطمئن لذكائه الفطري وحلول يبتدعها بلحظة، يغير الحديث مرناً متنوعاً معجوناً بخبرة الحياة، لا تمل من سماع تفاصيل خبرته، تجاربه، أصدقائه الكثر، حيوات الآخرين المتناقضة، يشكلها هشام ببوتقة روحه، فتحب معه من يختلف معك كلياً ومن لا يشبهك أبدأ، ترغب برؤية الأشخاص النموذجيين الذي يروي حيواتهم فتضحك معه نوادرهم، وتقول هل ما تسمعه حكايا، إلى أن تدرك أن الشخصيات التي يحدثك عنها من صلب الواقع، ولكن ثمة تساؤل كيف؟ ومتى؟ التقى هؤلاء جميعا؟؟ ولكأنه كبير السن، ألأن روحه متأرجحة بجسر التواصل بينه وبين الآخرين، أم لأنه يحب التغير والتجديد؟ يمل كثيراً فتسميه ملولاً، يدفعه ملله للمغامرة، يغامر بوظيفته، فيسافر إلى أبعد نقطة في الشرق لفتح آفاق جديدة له ولأسرته، يرغب بتعلم اللغة الإنكليزية فيدرس مجموعة جمل إنكليزية قبل سفره بيومين، لعلها تعينه على الحوار مع الصينيين، يستوعب بسرعة، يمل يغلق الورقات الخمس.. «أستطيع أن أدبر حالي بهذه الجمل»، يقنعك بأن ما حصل عليه من قليل يكفيه كثيرا، ليعاود الحديث والحوار، يغادرنا إلى الشرق فيطل علينا مراسلاً من «كوانزو»، ربما ليعوّدنا على غيابه، يطل من الأنترنت يحادثنا، يشتكي من الوحدة والملل، فهو الذي لم يتعود أبدا إلا مصاحبة الآخرين، الحوار، النقاش، الزيارات، تلبية الحاجة مهما تكن، وكأن طلب الآخرين دين في رقبته، تسترخي لظل حلوله، وتسافر معه لمغامرات قد لاتكون محمودة العواقب، يسهر وحيدا هناك تدق الساعة الثانية عشرة لاستقبال العام الجديد، فيقول لنا «مليار.. ولا تستطيع التكلم مع أحد»..

يعود من الشرق معاتبا اللغة، وطريقة حياتهم التي لا تشبهنا بشيء، ضاقت به الغربة القصيرة، فعاد إلينا، بقصص ونكات وحكايا كثيرة لا تمل سماعها، يرشح نفسه للانتخابات رغبة بحضور فاعل بين أعضاء مجلس الشعب لتحقيق حلم تحسين أوضاع الناس وخير الوطن، لم يأبه للملايين التي يدفعها الآخرون، فقوته جرأة قلبه وصلب عوده وحب الناس، ترشحه قريته «القريتين» بالكامل، فيكتشف حب الناس له، تنأى الانتخابات عنه فيحزن، يشعر بفراغ، فقد غادرته الوظيفة، الشرق وحلمه بالفوز، يشعر بفراغ، فيكتئب، ولكن كآبته لا تطول، فبعد حين ثمة مشاريع صغيرة للأصدقاء القادمين من الغرب، يعاود السهر الدردشات ورغبة السفر، يسافر سفرته القصيرة معجونا بحب الحياة، نصف نهار سهرة في حمص ويعود غدا، يغادر ومطر أيار على غير موعده يغافله، فيغافله قدره... على الطريق تودعه الحياة، وتودع عجقته وأحاديثه الكثيرة، يصمت.. فنصمت قليلا لانصدق غيابه المفاجئ، تهطل دموعنا مع المطر الذي لم يصمت عن بكائه طوال الليل، تودعه الطبيعة ونودعه معها وكأنه وداع مؤقت، فقد دربتنا «كوانزو» على غيابه قليلا، ولكننا مازلنا ننتظر صوته، طريقته في طرق يديه على الباب، مازلنا ننتظر دخوله علينا، لنسمعه ونشعر معه بفرح مؤقت، ننتظر قدومه لنعاتبه على غيابه السريع الذي جاء كمطر أيار الغزير.. في غير أوانه.

■  خزامى رشيد

آخر تعديل على الإثنين, 14 تشرين2/نوفمبر 2016 12:29