إبراهيم اليوسف إبراهيم اليوسف

سعيد دوكو.. حقا إني بكيتك..!

لم يكد أيار يجر أذياله، في يومه الأخير، حيث حقول القمح التي تواصل كرنفالها السنوي الموقوت، حتى سرعان ما انتشر، وبسرعة البرق الخبر الأليم: رحل سعيد دوكو!

 شخصياً، لم أتمكّن من تصديق النبأ، وأنأ أتلقّاه من محدثي على الهاتف، تحت سطوة لهيب الصيف الجزريّ الذي يبلغ أوجه، لأسبح في بركة من العرق، وتتحجّر في مدمعي عبرة: كيف يموت أبو ماجد.؟!

لم أتلكأ وأنا أعتصر ذاكرتي، لأعرف أنني ألتقيته لأول مرة، في الأول من أيار نفسه، وهو يملأ الكرسيّ، بجسده المنهك، يتابع وقائع الاحتفال بهذا العيد، الموعد نفسه الذي دأبت أن ألتقيه فيه، وخيرة قليلة من المخلصين أمثاله، ممّن لا يتعاملون مع رؤاهم بغرض الاستعراض، أو المكاسب المرذولة، بل وسرعان ماتذكّرت لقاء آخر قبله، بأيام قليلة في عزاء صديق مشترك لنا، وهو يفرد ذراعيه، يحتضنني، على عادته، منذ أن تعارفنا تحت خيمة الحزب الشيوعي السوري، منذ حوالي ربع قرن، لأجده واحداً من قلة قريبة منّي، يعاملني دائماً بروح أبوية، أبية، غير مشروطة في تبنّي موقف عابر، أو مصلحة مرذولة، كما سأجد كثيرين ممن (طاروا) بعد تحقيق مآربهم، أو ممّن نما ريشهم، ولم نكن نتلكأ في تسميتهم نهازاً نهازاً، وكانوا الأقرب إلينا من الظلال..!

حقيقةً، لقد وجدت في الحزب الشيوعي السوري، وأنا أعمل ضمن الحقل الثقافيّ فيه على امتداد سنين طويلة، عالماً خاصاً، هو في النهاية صورة عن العالم المحيط نفسه، وطبيعي أنه في مثل هذه الحال، ألتقي بأشخاص من مختلف الأصناف، ليستوقفني من بين كل هؤلاء ، الذين ينذرون أنفسهم لرؤاهم، وقناعاتهم، ولقد كانوا عموماً من الرعيل الأسبق الذين خاضوا المعارك الطبقية، ولم تنحن هاماتهم أمام جور سلطان، أو وعيد باغ، وهم يقبضون على جمر النضال، يحاربون بلا هوادة، ماداموا قريبين من نظريتهم، وهم عموما أولاء الذين لم يستسيغوا تلك التنازلات الهائلة لحزبهم في مختبر الجبهة الوطنية، يوماً تلو آخر يرفعون أصواتهم المعارضة ضمن صفوف الحزب، بل وخارجه، وهو ماسيؤدّي بهؤلاء ليدفع كل منهم الضريبة على طريقته، ولقد كانت ضريبة أبي ماجد دخول السجن أكثر من عامين بسبب تلفيق تهمة كاذبة بحقه، نتيجة نضاله في منطقة – ديرك – المالكية، ولم يفرج عنه إلا بعد تدخل شخصي من الرفيق خالد بكداش حينما حدث الرئيس الراحل حافظ الأسد بذلك.

عموماً، أبو ماجد، أحد هؤلاء الذين لا يمكن لمقال عابر كهذا تناول سيرة حياتهم، لأنه من ذلك النمط من الرّجال الحقيقيين، ممّن ناضلوا، دون أن يفكروا بأنفسهم، ليدفعوا ثمن ذلك غالياً على حساب لقمة بنيهم..!

ولعلّ ماكان يعجبني في الرجل وفاؤه لمبادئه وشجاعته وبأسه وحكمته، ورؤيته الثاقبة، وقبل كل ذلك حسن فهمه لتلك العلاقة الحقيقية بين ماهو أممي وما هو قومي، بعيداً عن الرّوح العدمية التي ارتمى في فخاخها سواه، وكذلك بعيداً عن الشوفينية قاصرة الرؤى، وهو ما شدّه إلي كثيراً على اعتباري لم أساوم مرة على قضية بني جلدتي من الكرد، لأراه أحد الذين وقفوا إلى جانبي، واحتضنوني، وشدوا من أزري، مدافعاً عن رأيي في وجه من كان يحاول قمعه، أنى استطاع، بعكس من كان يحاربني لأغراض مرذولة، لمواجهة هذه الخصيصة التي لم أتخلّ عنها يوماً، ضمن قهم خاص أدفع ضريبته على أكثر من صعيد..!

إن الغياب الأخير لأبي ماجد، وهو في ذروة يناع الحكمة، ليشكّل حقا خسارةً كبيرةً، فادحةً، ليس لأسرته وأصدقائه ومحبيه، ضمن دائرتهم الضيقة فحسب، بل ولمجتمعه وبلده، لأنه كان أحد المناضلين الاستثنائيين الأشدّاء الذين لم تلن لهم قناة في مواجهة آلة الخطأ، أينما كانت، وهو ما جعل أبا ماجد يدفع ثمن تلك الروح، كمن سبقه، أو واكبه، بل وسيليه، ضمن دورة الحياة، وصراع الخير والشر، ليعيش حياة فقر، بإباء، ويتلقى الطعنات، من كل حدب وصوب، ولعلّ أبخسها طرّاً، هي تلك التي تباغتها الأيدي التي لم تتلق منها سوى الدفء والحبّ والحنان والخير، ولنا في هذا وذاك أمثلة، لما تزل شاخصة على مرأى الأعين..!

أبا ماجد، صديقي الطاعن في الحكمة، يقيناً إني بكيتك ....!

آخر تعديل على الخميس, 17 تشرين2/نوفمبر 2016 17:36