ترقيع أم هروب للأمام أم الاثنان معاً؟
بتاريخ 24/8/2016 تم عقد اجتماع في وزارة التنمية الإدارية بين كل من وزيري التجارة الداخلية وحماية المستهلك، والتنمية الإدارية، مع فريق عمل من الوزارتين كلتيهما، من أجل مناقشة مشروع إعادة هيكلة مؤسسات التدخل الإيجابي، والمؤسسات المعنية بتوفير مادة الأقماح والطحين.
إن وجود مؤسسات عامة، كبيرة وواسعة الانتشار، تحظى بالتمويل اللازم، وتمتلك صلاحية اتخاذ القرار تحت عين الرقابة والمحاسبة، الفردية الخاصة والرسمية العامة، وتعنى بتأمين مستلزمات واحتياجات المواطنين بسعر ومواصفة وجودة منافسة لمثيلاتها، التي يتم تأمينها عبر القطاع الخاص، يعتبر أمراً جيداً وإيجابياً يصب في مصلحة المواطن، كما يصب في مصلحة هذه المؤسسات والاقتصاد الوطني عموماً، ولكن ما نخشاه أن ذلك يتعارض مع السياسات الليبرالية المتبعة والمعلنة، والمتمثلة بدعم كل ما هو خاص على حساب العام، وبالتالي فالحذر واجب من دس السم بالدسم بهذا الصدد.
تجارب سبق أن تم خوضها
لعل الفكرة ليست بالجديدة على مستوى الطرح والنقاش والتداول، أو على مستوى التطبيق، فقد سبق أن تم الحديث بمثل هذه الطروحات والاقتراحات لعدة مرات خلال العقود المنصرمة، كما سبق وأن تم دمج عدد من المؤسسات والشركات بمراحل سابقة، وكانت نتائجها العامة سلبية، سواء على مستوى الأداء والمهام، أو على مستوى مصالح العاملين وحقوقهم وامتيازاتهم، بالإضافة إلى سلبيات أخرى ظهرت لاحقاً بملفات العاملين ووثائقهم وغيرها، ومن أمثلة ذلك (اللحوم- باتا- التجزئة- التبريد).
تغييب الجوهري
الملفت دائماً في الاجتماعات واللقاءات والنقاشات والطروحات كلها طيلة الفترات المنصرمة، بما فيها ما يتم طرحه وعرضه الآن، هو تغييب السبب الجوهري والأساسي الذي تعاني منه تلك المؤسسات، والذي بسببه تعجز عن القيام بمهامها ومسؤولياتها، والتركيز على الجانب الإداري فقط، رغم أهميته، من جملة المشاكل والمعيقات التي تواجه عمل هذه المؤسسات على المستوى العملي، وخاصة ناحية التمويل ورأس المال والصلاحيات الممنوحة وفقاً لمراسيم الإحداث، على الرغم من الكثير من المطالبات والاقتراحات الخاصة بتذليل صعوبات العمل التي تم التقدم بها من هذه المؤسسات كلها، وعلى الرغم من العديد من الدراسات الخاصة بموضوع إعداد مراسيم إحداث جديدة تتناسب والمهام المنتصبة أمام كل منها، بالإضافة إلى المعيقات التي تنتصب أمامها بممارسة أعمالها وفقاً لمراسيم إحداثها الحالية، ولكن دون جدوى طيلة العقود المنصرمة، لتظهر فكرة الدمج المعادة والمكررة، كأنها حل ترقيعي مؤقت يؤجل حل المشاكل الرئيسية ويسوفها، وكأننا نهرب للأمام من أجل عدم حل هذه المشاكل آنياً.
السوق محتكر والفوضى منظمة
رغم أن فترة الحرب والأزمة أظهرت أهمية وضرورة وجود مؤسسات عامة تعنى بتأمين متطلبات المواطنين واحتياجاتهم بمواصفات جيدة وأسعار مقبولة، بظل فلتان الأسعار وفوضى السوق، المنظمة والمحتكرة عملياً من قبل كبار التجار والمستوردين والسماسرة ولمصلحتهم، إلا أن ذلك لم يتم تداركه بالشكل المطلوب، بل كانت مؤسسات التدخل الإيجابي إحدى وسائل هيمنة هؤلاء على السوق بشكل أكبر وأعمق، باعتبار أن هذه المؤسسات تضطر للتعامل معهم عبر تسويق وبيع منتجاتهم ومستورداتهم في صالاتها، أو تأجير بعض الصالات ذات المواقع الهامة لعقود، وبرسوم سنوية على شكل استثمار ذي مردود متضائل عاماً بعد آخر بظل تدني القيمة الشرائية لليرة، وذلك لعدم تمكنها من أن تقوم باستجرار احتياجاتها مباشرة، بسبب عدم توفر السيولة وبسبب احتكار الاستيراد من قبل القطاع الخاص غالباً، وخاصة على مستوى المواد والسلع الأساسية، وبظل ارتفاع معدلات إنفاقها، والحاجة لتغطية هذا الإنفاق عبر هذا الشكل من «التعاون» مع القطاع الخاص، باعتبارها مؤسسات ذات طبيعة اقتصادية مستقلة مالياً وإدارياً. ما يعني بالواقع العملي أن أية مؤسسة محدثة بعد الدمج لن يكون وضعها بأحسن من هذه الحال، كما لن تكون أداة فاعلة بيد الدولة على مستوى تأمين احتياجات ومتطلبات المواطنين، إن لم تتمكن من القيام بتأمين هذه الاحتياجات بالشكل المباشر بعيداً عن دور هؤلاء المحظيين بالدعم الرسمي، والمستغلين لاحتياجات هذه المؤسسات لتغطية إنفاقها.
رغيف الخبز هو الأهم
إذا كان الأمر كذلك على مستوى مؤسسات التدخل الإيجابي، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً على مستوى المؤسسات والشركات التي تعنى برغيف الخبز، القوت اليومي للمواطن، ولعل ذلك يدفعنا لأن نقول أن موضوع دمج الجهات المعنية بإنتاج هذا الرغيف يتطلب الكثير من الدراسات المتأنية بحال تم التوصل لقناعة تامة بأنه لا بد من الدمج فيما بينها، مع أهمية وضع خطة عمل مرحلية قصيرة وبعيدة المدى، كي لا يصاب إنتاج هذا الرغيف وتأمينه بأية خضة أو أزمة، خاصة وقد لمسنا دوراً لمفتعلي الأزمات على مستوى تأمين هذا الرغيف، اعتباراً من مهربي الدقيق التمويني والمتاجرين فيه، مروراً بافتعال الازدحام على المخابز والأفران، من قبل حفنة من المستفيدين من تجارة الرغيف بالسوق السوداء، وليس انتهاءً بالسياسات الرسمية المتبعة عبر رفع الدعم عن هذا الرغيف تباعاً، بذريعة تصحيح الأسعار وغيرها من الشعارات، التي كان المواطن ضحيتها على مستوى معيشته وقوته اليومي واحتياجاته الضرورية الأخرى.
خشية مشروعة
الخشية من أن إعادة طرح هذا الموضوع الآن يصب باتجاه دمج المشاكل والسلبيات والمعيقات التي تعاني منها كل مؤسسة على حدة، لتصبح المؤسسة التي سيتم إحداثها بعد الدمج هي مؤسسة مشاكل ومعيقات وصعوبات متراكبة ومتشابكة غير قابلة للحل، ناهيك عن الفترة اللازمة من أجل إعادة اقلاع أية مؤسسة بعد الدمج، ناحية التأقلم مع الواقع والمهام الجديدة على مستوى أداء العاملين على المستويات كافة، أو على مستوى إعادة التأهيل اللازمة لهؤلاء العاملين في المواقع الجديدة، وغيرها من القضايا التي ستكون مستهلكة لعامل الزمن الضروري حسن استثماره، وخاصة بهذه الظروف الضاغطة، ما يعني عملياً القصور بتنفيذ مهامها بنهاية المطاف، الأمر الذي قد يكون ممهداً للتخلص منها بشكل نهائي بمرحلة لاحقة، وهي خشية مشروعة بظل استشراس قوى السوق المدعومة عبر السياسات الرسمية المحابية لهذه القوى، التي ترسم استراتيجيتها لتبتلع وتحتكر السوق كاملاً، على حساب الوطن والمواطن.
اقتراحات ملموسة
لعل الدعم الحقيقي المطلوب على مستوى حسن تنفيذ هذه المؤسسات لمهامها، كونها بعض أذرع الدولة من أجل تنفيذ سياساتها، لمصلحة المواطن أولاً، بحال هذه المصلحة ما زالت ماثلة أمام الحكومة المنفذة لهذه السياسات، يكون عبر:
- تعديل السياسات الاقتصادية المتبعة التي تمنح التجار والمستوردين والسماسرة امتيازات على حساب دور المؤسسات العامة ومهامها، كما على حساب المواطن والوطن بنهاية المطاف.
- منح هذه المؤسسات، أو ما سيظهر منها بعد الدمج، الصلاحيات الكفيلة بقيامها بمهامها، بما في ذلك الاستيراد المباشر لحسابها، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الرقابة والمتابعة والمحاسبة.
- مساعدة هذه المؤسسات على استرجاع صالاتها من أيدي المستثمرين، وخاصة تلك الموجودة بالأسواق والمناطق الهامة.
- وأخيراً، وليس آخراً، اعتماد سياسة تمويلية تحقق لهذه المؤسسات التواجد بالسوق كمنافس حقيقي لمصلحة المواطن، باعتبار أن رأس المال والتمويل من العوامل الهامة على مستوى كسب المنافسة في السوق، يضاف إلى أهمية كسبه عن طريق السعر والمواصفة والجودة.
مع عدم تغييب أهمية حسن اختيار الإدارات وحسن تدريبها وتأهليها، واعتماد نظم إدارية ومحاسبية ومالية بسيطة وشفافة وذات كفاءة ومصداقية، مع اعتماد آلية رقابية أكثر فاعلية، تعتمد مبدأ الرقابة الوقائية أولاً، من أجل الحد، قدر الإمكان، من الأخطاء، المقصودة أو غير المقصودة، التي تحد بدورها من تغول الفساد وانتشاره.