قراءة غير اقتصادية: الموظف السوري.. و«الفيش»
ما أن يستلم سعيد -الذي لا يعرف من السعادة سوى الحروف التي تشكل اسمه- فيش الراتب الشهري من محاسب الوظيفة حتى يندس في ركن قصي ويذهب بعيداً في الخيال، الشرود الاقتصادي الذي يمارسه بداية كل شهر، ويحضّر له في الأيام الخمسة الأخيرة منه.
سعيد يحدق في التفاصيل الكثيرة لما يسمى (الفيش)، وهو الإيصال الذي يحدد تفاصيل الراتب الشهري، يحدق سعيد وهو غائر الفم والعينين، ويرتسم على الوجه الأبيض كورقة الفيش علامات لا يمكن أن تفسر، ومن ثم يبدأ الهمس الذي يعتقد (سعيد) أن لا أحد يسمعه.
على الأصابع والشفاه تبدأ العمليات الحسابية.. بعد برهة يعود إلى المحاسب ويسأل: ألا يوجد خطأ في الراتب يا أستاذ.؟
يجيب المحاسب وهو يعد له الراتب: راجعني بعد (عشرة) الشهر...
حسابات الحقل
في الطريق إلى البيت، الطريق التي يدعو سعيد الله أن تطول، أو ألا تنتهي أبداً، أو يكرمه الله بحادث سير يقصف عمره، فمنذ أكثر من سنتين لم يصل إلى البيت ومعه فروج مشوي، أو حتى صحن بيض، أو كيس موز للأولاد الذين ابتلاهم الله بمحنة أبوته لهم، الأدهى من ذلك يسأله ابنه الأكبر: كم راتبك يا أبي؟
يتذاكى سعيد: المقطوع أم الكامل؟
الابن بخبث: أي واحد شئت.
لم يجب سعيد على هذا السؤال ولا مرة واحدة، لأن كل ما سيقوله سيجعل منه سخرية لأبنائه، فراتبه المقطوع (15126) ليرة، هذا عن كل التعويضات، أما الصافي للدفع (2884) ليرة سورية عداً ونقداً.. وهنا كمن يستيقظ من كابوس: أين ذهب الراتب؟
يستيقظ على صوت سائق السرفيس: آخر موقف.
نعم، بحسبة بسيطة، يقول الفيش ما يلي:
- تأمينات اجتماعية: 1059 ل.س.
- ضريبة الدخل: 620 ل.س.
- رسم نقابة: 151 ل.س.
- صندوق الزمالة: 100 ل.س.
- صندوق المساعدة: 100 ل.س.
- صندوق اتحاد: 100 ل.س.
- طابع: 1 ل.س.
- مجمعات استهلاكية: 2629 ل.س.
- قروض مصرفية: 6352 ل.س.
- سلف: 2000 ل.س.
- مجموع الحسم: 13112 ل.س.
- صافي للدفع: 2884 ل.س.
حساب البيدر
توظف سعيد منذ 27 سنة، أيام كان الموظف باشا، ويومها فرح كل من يعرفه، وعزوا الوظيفة إلى رضا الله والوالدين، وبالأخص دعوات الأم له بأن يمسك التراب فيصير مالاً، وفي إحدى دعواتها قالت: يصير ذهباً.
الرواتب الأولى التي تقاضاها في شبابه كانت مدعاة لفخر العائلة، ومما تبقى من الراتب الأول بعد أن وزع منه على الأهل وسدد بعض الديون، مما تبقى اشترى (طقم رسمي)، وصار يذهب رسمياً إلى الوظيفة والسهرات، وراح يجالس كبار أهل القرية وموظفيها الذين كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة.
بحثت الأم عن عروس لابنها الذي يرفع الرأس، وأصرت على أن تكون من أسرة ذات مستوى وسمعة.
يقول سعيد وهو يتذكر: كانت ساعة نحس.
تزوج سعيد، استأجر منزلاً في ضواحي المدينة، ثم اشتراه بالتقسيط من صاحبه الذي أشفق عليه كموظف فيما بعد، وبدأ رحلة الحياة القاسية، وأنجب سعيد الولد الأول، أما بقية الأولاد فجاؤوا إلى الحياة دون رغبة، من أجل سلالة العائلة، والحلال والحرام، وأخيرا بسبب الضجر.
يكثر الأولاد، تزداد الأسعار، يزداد قسط البيت، لوازم المدرسة التي لم تعد مجانية، المونة، مصاريف الأعياد، المرض، أثاث البيت...إلخ، ولا يزيد راتبه إلا مرة كل سنتين بالترفيع أو ما تسمى الدرجة، أو بمرسوم زيادة.
على الواقع .. على الفيش
تعويض التدفئة على الفيش ما زال منذ زمن 870 ليرة للموظف السوري، ولا يعرف سعيد على أي أساس تم حسابه، أما ما يثير جنونه فهو تعويض العائلة، فالولد الأول 200 ليرة في الشهر، والثاني 150 والثالث 100، والبقية في حساب الريح.
تعويض الزوجة 300 ليرة سورية.. يضحك بأسى، الزوجة فقط تكلفني 300 ليرة، والولد الأول 200 ليرة أي ثمن كيس فوط لمؤخرته.
هذا كل ما يزيد تحت بند التعويضات، إذ لا يتقاضى تعويض اختصاص، عمل، أخطار مهنة.. الخ، أما الحسميات فحدث ولا حرج، ينكشون الحسميات (نكش) على رأي سعيد، والأهم أنها لا تعود عليه بالفائدة، سوى واحدة (بتهكم).. تعويض الوفاة ( 100) ألف ليرة تسلم لذوي المتوفى، وذلك ليقولوا أثناء دفنه: (الله يرحمو)!.
الفيش يفضح صاحبه، أين ذهب 13112 ليرة من راتب سعيد، بعد حذف ما يدفعه للنقابة وصندوق الزمالة والتأمينات الاجتماعية التي ستعطيه إن لم يمت راتب التقاعد، وصندوق الزمالة والاتحاد، بحذفها، يأتي بند مجمعات استهلاكية.
أقساط تتجاوز السنتين، وفي كل شهر يدفع سعيد تحت بند المجمعات الاستهلاكية 2629 ليرة سورية، من أين جاءت؟؟.
زوجة سعيد: كل نساء الحارة لديهن غسالة أوتوماتيك، أو على الأقل حوضان، وأنا زوجة الموظف ما زلت أغسل على الغسالة العادية.
زوجة سعيد: الأولاد خف نظرهم من التلفزيون 14 بوصة سيرونكس، سجل لنا في الوظيفة على تلفزيون 21 بوصة مسطح.
زوجة سعيد: يا حبيبي يا سعيد، كسرت المكنسة القش ظهري، مكنسة كهربائية من المجمع الاستهلاكي.. وتريح حبيبتك.
القروض المصرفية
طلبات زوجة سعيد ليست تعجيزية في بند المجمعات الاستهلاكية على فيش سعيد، فهي من أبسط ما يحتاجه أي بيت عادي وصلته الكهرباء، لكن لماذا يحمل بند القروض المصرفية رقماً يوازي نصف راتب سعيد: أي 6352 ليرة سورية؟
على راتبه المقطوع، يحق لسعيد أن يقترض مع كفيلين من زملائه الموظفين أكثر من 250 ألف ليرة، هكذا حسبت العائلة في إطار تفكيرها الاستراتيجي بتغيير شكل المنزل الذي لم يتغير من 15 سنة على الأولاد والزوار. على الأقل، أراد سعيد أن يغير شكل المطبخ، الأرضية الأسمنتية، الجدران الملوثة بزيت القلي، ويحسن منظر الحمام، من الاستحمام بالجرن إلى (الدوش) العادي، فلا يحلم أي مواطن سوري مثل سعيد وشريحته (بالجاكوزي) لا سمح الله.
تورط سعيد واقترض لبناء مطبخ جديد وحمام عتيد، دفع رشوة للبلدية، لشرطي البلدية، لمهندسي المكتب الفني، ولجهات أخرى، الرشى المدفوعة تعادل ربع القرض، أي قبل أن يضع حجراً على حجر.
المطبخ بدأ بالسيراميك، كان فرحاً وهو يمشي من محل إلى آخر، من معمل لآخر، وفي النهاية انتقى مع زوجته أرخص الأنواع. يقول سعيد: إذا رأيته تعتقد أنه (سيراميك).
الاسمنت من السوق السوداء، البلوك بالتقسيط، المجلى من أسوأ أنواع الرخام، بواري الصحية والحنفيات وقطع الصحية ليست بأفضل حال من السيراميك.. كل المواد الأولية منسجمة على نسق واحد هو السوء.
السلف
باب الحسميات الأخير كان السلف، فقط 2000 ليرة سورية. استلف في المرة الأولى 10000 ليرة، وهي ما يحق له، ولا يحق له الاستلاف مرة أخرى قبل أن يسدد السلفة الأولى، ولكنه (دبرها)، استلف 20000 ليرة.
أما لماذا استلف مرة أخرى؟ فلأن القرض طار، والبضائع والحاجيات التي أخذها بالتقسيط لم يستطع أن يدفع ثمنها، مما اضطره للاستلاف، وهكذا صار راتب سعيد بين القرض والمصرف في خبر كان.
مات الفيش
بعد أن كان حلماً يراود الشباب السوري، وحلماً يراود الفتيات بفتى لديه فيش، مات الفيش، الراتب الشهري والآلاف الجديدة التي كما كان يقول جدي: تجرح الكف، لم تعد تداوي جرحاً بكف.
الأيام الأولى من الشهر هي أيام الإحساس لدى الموظف بأنه عامل، وبقية أيام الشهر تعيش معه بشعور العاطل عن العمل، الباحث عن وظيفة أخرى، عمن يدينه لآخر الشهر، وسعيد ليس قصة من خيال، سعيد موظف في دائرة حكومية محترمة، وما زال على قيد الحياة والعمل.
سعيد وشريحة موظفي الدولة الذين يمكن أن تلتقي بهم خلف كراسيهم في مكاتب نظيفة، ولدى البعض منهم مستخدمون يلبون طلباتهم في الشاي والقهوة، وبعضهم لديه موظفون يأتمرون بأمره، قد يكون سعيد رئيس ديوان، أو رئيس شعبة.
في سجل هؤلاء الشرفاء يعبر الفيش عنهم، وبعضهم يعمل في وظيفة أخرى ليحافظ على فيشه الآخر دون ملاحظات، أما من تبقى خارج الوصف، فلا يحتاج لفيش وإنما يقدمه كدليل براءة عن سوء الحال، وهؤلاء كثر في ظل البيروقراطية وتفشي الفساد والرشى في مفاصل العمل البيروقراطي الحكومي.
الفيش كان الدليل الأخير على وضاعة الدخل الذي تتقاضاه شرائح عريضة، ولكن بعد أن اعتمدت البطاقات الالكترونية في صرف رواتب الموظفين، ولن يحمل معظم الموظفين سوى بطاقة برقم سري.. مات الفيش.
■■
• ملاحظة:
أحد أصحاب (الفيَش) لم يرض أن يعطينا صورة عنه، ينتهي بعبارة: «الصافي للدفع: 1 ليرة».. ليس خوفاً.. بل عاراً!!