مطبّات رثاء المجدرة
في التعريف، المجدرة: هي الأكلة الشعبية الأولى، في المكونات: برغل، عدس، بصل مقلي، زيت زيتون، وبجانبها بعض البصل الطازج، وزبدية لبن، أو تدار معها السلطة البسيطة المكونة من البندورة الناعمة والبصل والنعنع اليابس الناعم، والماء وزيت الزيتون.
ولكن لماذا المجدرة البسيطة في مقلاية البحث؟
في حسبة بسيطة لتكلفة وجبة المجدرة في يوم عطلة سوري نموذجي، في ظل الأسعار الجنونية التي لم تستطع كل تهديدات الحكومة، وتصريحاتها بالتدخل لصالح المواطن البسيط مثل المجدرة، الوقوف إلى جانب لقمة العيش البسيطة ضد اللعب الذي يمارسه التجار على هواهم دون رادع، فشلت الحكومة في تحقيق ما تحدثت عنه، وما وعدت به.
فعلى سبيل المثال سعر كيلو البرغل 110 ليرات، والعدس 110، وزيت الزيتون يباع حسب رغبة الزبون، وكيلو اللبن بـ35 ليرة، إذا كانت العائلة متوسطة الحجم مثلاً 5 أفراد وأرادت أن تحتفي بالوجبة الأكثر شعبية، فماذا ستكون التكلفة؟
إذا أرادت العائلة نفسها أن تقدم السلطة مع الوجبة سندخل في حساب سعر الخضار مثل البندورة والخيار والبصل والنعناع، مضافاً إليه زيت الزيتون.
ببساطة ستدفع العائلة السورية ثمن وجبة كانت للفقراء فقط مالا يقل عن 600 ليرة، وجبة ليست على قد المقام، ليست إلا سد رمق، حتى وإن سموها (مسامير الركب).
تتذكر معظم النسوة اللواتي صرن على أعتاب القبر، سهرات الشتاء، الأحاديث الحميمة على سراج الكاز، الليل الطويل الذي يودي إلى صباح مفعم بالهواء الخالي من أول أكسيد الكربون ونفحات الصرف الصحي، اجتماع العائلة على وجبة المجدرة بنهم، حينها كانت الأرض تعطي غلال القمح وفيرة، والسنبلة على رأي إحداهن أطول من (الزلمة).
جاء الزمن المليء بالخيبات، السماء تآمرت على الأرض، والأرض باتت على كف عفريت اسمه الإنسان، ودعنا دون رغبة- نحن الذين نقترب من الجيل الذي يضع قدماً في القبر- كل الحكايا التي سمعناها عن الخير ومطر الجولان والساحل والغاب والجزيرة.
ألم نتغنَّ بالحنطة الجزراوية والحورانية، ومشمش الغوطة وخوخها، عنب جبل الشيخ والسويداء، حمضيات الساحل وزيته، زيتون إدلب، وصبرنا طويلاً أمام التلفزيون ونحن نشاهد برنامج أرضنا الخضراء، وأغنية وديع الصافي عن الأرض الخضراء التي نامت في أغنيته.
حوران القابعة في الجنوب تعود إلى ذكرياتها عن السنوات العجاف، الجزيرة أكلت (السونة) قمحها، وجار عليها الوقود بغلائه في الموسم، ومازال لتاريخه الزيتون صامداً، ولكن عصيره في ارتفاع.
ما زالت مواسم المشمش والخوخ في أسواقنا، لكنه يعيش على هوى الصرف الصحي بعد أن ودع بردى خفقانه، وصار ساقية، ثم جيفة.
لكننا لم نقطع الرجاء من السماء حتى دون صلاة استسقاء، لم نترك للتشاؤم أن يقود أقدامنا إلى اليأس، ثمة أمل بأن هذه الأرض تلد الماء كما تلد الأنبياء، هذه الأرض تفور بالينابيع وقت أن يدعو بسطاؤها السماء أن أغيثينا، تعبنا من جور ذوي القربى.
ذوي القربى الذين لم يعرفوا طعم وجبة المجدرة مع فحل من البصل وقت تشتد الريح وتتصل الأرض بالسماء بخيوط المطر، ولم يتسنّ لهم سماع أحاديث السهر، ولم يفكروا يوماً بمعنى الأناشيد التي تمجد الأرض والإنسان، الوطن والدفاع عن سياج أخضر فيه، لو كانوا عكس هذا، لما احتكروا اللقيمات عن أفواهنا، لما هرعوا لفلاح وتلاعبوا بعرق جبينه.
القسم الثاني من هؤلاء هم من ذاقوا طعم حبة العدس حين تنتش في الفم، لكنهم تناسوا كل الذكريات مع الأموال المكدسة في جيوبهم، محدثي النعمة الذين أفاقوا على منصب يسمح لهم أن يمدوا اليد إلى أرزاقنا وأعمارنا، أن يذبحوا فينا شهوة الجلوس على الأرض مع صحن (مجدرة).
البرغل لم يعد من غير عز كما تقول الأهزوجة الشعبية، لن يشنق نفسه غيظاً من الرز، الرز الأبيض، البرغل الأسمر بلون السواعد التي تجني حبيباته الأثيرة على القلب، المتآخية مع الذكريات، صار بعيداً عنا، وصار يعبّأ في السوبرماركات لتلتقطه الأيدي الناعمة التي تدفع دون حساب، ليس لطقس في البال، أو شهوة عنيفة، ربما لنزوة أن تعيش حالة تشبهنا، أو للضحك على المذاق الذي يطرب أفواه الفقراء والجياع.
بكل بساطة وصلنا إلى الزمن الصعب، الزمن الذي لم تعد أمي وزوجتي تفاجآني في ظهيرة يوم عطلة ببعض (مخلل الخيار) وصحن مجدرة، ولم يعد بالإمكان دعوة (جهاد أسعد محمد) على تلك الوليمة، فقد تأخر كثيراً في تلبيتها، وصار بإمكاننا أن نطلب منه تغيير الطلب، أو أن يؤجله لعزيمة زفافه، أو الاحتفال برأس السنة.
■ ع . د