طبقتان وسوقان.. السوري في وجهي العملة الواحدة..

في الطريق التي مشتها الطبقة الأم بعد زوال الشرائح الوسطى، وازدادت اتساعاً وفقراً، بعدما انحدرت إليها الشريحة التي كانت تشكل الصناعات الصغيرة، وقطاعات الأساتذة والموظفين وأصحاب المصالح المتوسطة، والمثقفين.

في الطريق إلى تفردها وعنجهيتها، اتسعت الطبقة المخملية اتساعاً مريباًُ وبسرعة قياسية، انضم إليها اللصوص والمرتشون، انتهازيو الأزمات الكبرى التي ظلت تتتالى، المدراء الأكثر فساداً، المتربصون الحاقدون، ترممت بتشوهاتها المزمنة، ولم تعد طبقة تتمتع بأخلاق الفرسان ولا بنبلهم كما كانت الروايات الكلاسيكية تجهد في تصويرها وتقديمها. 

أبو زياد الحداد

كان يمتلك المحل المجاور للنهر في أحد الأحياء الشعبية، كان يغني دائماً، كل شبابيك الحارة وأبوابها رسمتها اليد الصدئة لـ (أبو زياد)، حديقة البلدة سورها بحديده، وبسيجارته الوطنية ورائحة الحديد الملحوم، الشرارات المتطايرة، رسمت أشكالاً كالكرنفالات في ليلنا المعتم حين يعدنا المذيع بنقل مباراة، بطولة، وتنقطع الكهرباء، أو لا يعتذر لعدم بثها.

كل أبناء الحارة كانوا يدفعون له بالتقسيط المريح، ويربح قليلاً، وكان يقول دائماً: هؤلاء مثلي فقراء وطيبون، فجأة ارتفع سعر الحديد، صارت رسوماته ليست (مودرن)، وبعض الأقساط على طول الأيام لم تُستعد، أبو زياد هوى إلى الطبقة الذليلة، وكل ما يملكه الآن في ظل اللهاث إلى الانفتاح هو كرسي صغير أمام محل صار باللون الأصفر.

الأستاذ حنا

كان يمسك رقبة الطالب عندما يضربه كي لا يسقط، مدرس اللغة العربية، في العقد الخامس من عمره، كان يرسم الدرس في خمس فقرات، كبرنا وتقاعد الأستاذ، وأفلتت يده الخائرة أعناق الطلاب، ما بقي ذكرى اليد القوية عندما لا تكون الضمة فوق الفعل المضارع.

انسحب الأستاذ حنا إلى تقاعد زهيد، وهو الذي يمشي برأسه الشامخ الأصلع، أغلب الطلاب الكسالى صاروا تجاراً ومهربين، وانسحب الأستاذ إلى الطبقة الأدنى بيد خائرة. 

الخبز الكندي

كان أبو علي موظفاً صغيراً بـ1200 ليرة سنة 1982، يأتي أول كل شهر، يمر براتبه المدلل على سوق الشريبشات، يشتري كل ما يمكن أن يخطر على باله من حاجيات وأغذية، يحب (لحمة الرأس)، ويشتري الخبز الكندي، وبعض الكيلو غرامات من اللبن المصفى، الجبنة، والخبز المشروح، وكذلك الخضار والفواكه، أول الشهر الاحتفال العائلي بالرجل المدجج بما لذ وطاب، لم تكن هذه حالة الأسرة فقط، أولاد الحارة كانوا يجتمعون في أول الطريق المؤدي إلى منزله، يتدافعون.. فالرجل الاستثنائي يصل في الساعة الرابعة، يبدأ الانتظار من الثالثة، ينزل من الميكرو القديم بكيسين عامرين، ويبدأ كرنفال توزيع الخبز الكندي على الجميع دون استثناء.

دار الزمن بسرعة، تغيرت الذكريات، كبر الصغار، اشتغلوا بالفاعل، سافر بعضهم إلى قبرص، مات الرجل المدجج بالخبز الكندي كأفقر رجل في الحارة، بعد أن انسحب إلى الطبقة الأم، الفقيرة. 

عبد الرحمن

كانت أم غسان تجلس في دكانها، أطفالها الذين صاروا عشرة، يدورون حول الدكان، مغبرين، بالكاد كانت تستطيع إطعامهم، زوجها المتطوع في الجيش، يضع راتبه الشهري في يدها كل أول شهر، صارت الدكان تكبر، وعبد الرحمن الولد الثالث الشقي يساعدها في البيع عند عودته من المدرسة، يمكننا أن نقول إن الأطفال العشرة ولدوا وكبروا في الدكان الصغيرة، كانت الخيارات مع عددهم الكبير قليلة، الابن الأكبر أنهى الثانوية العلمية ولم يحصل على مؤهل يدخله الطب البشري، أقسمت أم غسان وأولادها أن يرسلوه للدراسة على حسابهم، سافر وعاد طبيباً.

أما عبد الرحمن فعاد من دبي في السنوات الأخيرة، اشترى بيتاً وسيارة يعمل عليها بعد أن ترك المدرسة، وألقي القبض عليه في حملة تهريب.

صعد غسان إلى الطبقة المخملية، أما عبد الرحمن بملايينه القليلة فما زال مجرد سائق عمومي، منسحباً مع الطبقة الأدنى. 

الصاعدون إلى الثروة

 لم يترك لنا الاقتصاد خيارات عدة للحياة والانتماء، خصوصاً أبناء الطبقة الفقيرة، الكل يهوى الخروج من القاع، من مات مات، من فشل واستلم من والده لواء البقاء في الأسفل، من غامر وصار مترفاً، لكن بين ظهرانينا، من تغرب وعاد بطموحات ساذجة: زوجة ثانية وقطيع جديد من الأولاد ينضمون فيما بعد للشارع البائس المليء بنظرائهم. 

الموت حلماً.. وغرقاً.. وكراهية!

من أشكال النهايات وأكثرها ألماً، رفيق، بسام، باسل، لم تعد مصلحتهم تأتي برغيف الخبز، نجارة البيتون في ظل الأسعار الكاوية، والقوانين التي تمنع البناء بالتهريب، الاسمنت ومواد البناء مرتفعة السعر، جعلت مهنتهم ضيقة، كان القرار هو السفر، في بداية التسعينات جيش من العمالة كان يسير باتجاه بلدين (لبنان، قبرص)، في الطريق الملتوية إلى الخروج من الوطن، سافر الشباب العامل تهريباً، عبر زوارق غير آمنة، وسماسرة العمالة الذين لا يهمهم سوى الحصول على المال، استدان الجميع، ثمن الفيزا القاتلة، وبعض المصروف ريثما يبدأ بالعمل، المبالغ التي يتقاضاها العمال كانت مغرية لحد المغامرة.

في الطريق إلى قبرص مات من مات، ما زالت المغامرة مستمرة، وما زال الموت يتربص مع أسماك القرش بتلك الأجساد المغامرة.

الذين ذهبوا إلى لبنان تحملوا وزر النفوس المريضة، البقية التي صمدت بعد خروج الجيش السوري تعرضت للذبح على الهوية دون رحمة، ودون ذنب. 

العائدون إلى الخيبة

من نجا من المغامرة القاتلة عاد، وظن أنه تخلص من الإرث، لكنه ببساطة عاد بأحلام لا تناسب سوى حقبة الجوع والطموح بملء البطن، والزواج الثاني من امرأة أحبها وهو فقير.

اشتغل الجميع في استثمار السرافيس التي كانت متعة العمل في التسعينات، أكثرهم طموحاً بنى مدرسة ابتدائية وأجّرها للتربية، أحد الذين سافروا إلى ليبيا عاد بعد تسع سنوات، تزوج وأنجب ثلاثة أطفال، وفي حادث سير انضم إلى قائمة الموتى.

العائدون فشلوا في انتزاع أنفسهم، فشلوا في الصعود إلى الأعلى حيث الرخاء، المشاريع العريضة، الثروة المتوالدة كالفطر، والحماية بالحصانة. 

المخمل.. والذهب

من ولد وفي فمه ملعقة من الذهب، أبناء التجار والسياسيون، الطبقة الصاعدة بعد تفجر المصالح الجديدة، أذيال الطبقة الارستقراطية الذين صاروا منها، بعض المغامرين الذين ذاقوا الفقر ثم تعالوا عليه وأصبحوا صانعين له.

في الشارع الطويل المسمى بالشعلان، تتزاحم السيارات الجديدة، المحلات التي تصنع بضائعها الأيدي الفقيرة، البضائع الجاهزة التي لا تصنعها الأيدي الناعمة المخملية، بل الأيدي المستقدمة من أثيوبيا والفلبين وسيريلانكا، بأجور أعلى من الحد الأدنى للأجور في سورية، وبضمانات صحية وشروط إنسانية وبالعملة الصعبة.

هنا في الشعلان، كل شيء جاهز للطبخ، الأسعار ليست في أسواق المساكين، لكن كل المعروض للبيع من النخب الأول، من الثمار أنضجها، من الفاكهة أكثرها نضارة وأكبرها حجماً، أياد لا تلمسها، البائع يحملها بكيس نظيف يغطي أنامله الرقيقة.

الأسواق الأنيقة لا تدخلها الطبقة المنحطة إلا للتسول، أو بيع ذكريات المأكولات الريفية كالتين اليابس، العسل، التوت، والزبالين.

تحول الأغنياء إلى أسواق لا تجمعهم مع الحثالة، (المولات) الكبيرة الموزعة داخل الأبنية الراقية، الفنادق، والتي لا يمكن الوصول إليها بالمواصلات العامة، خارج المدينة وبعيداً عن الحزام المثير للاشمئزاز. 

أسواقنا

هنا حيث نسكن ويسكن معنا البؤس، نسكن ويهرب من بين أيدينا الفرح، أسواقنا في المخيم، الدويلعة، سوق عاصم، أسواق الأيام (سوق الأحد في جديدة عرطوز)، البالة، الأثواب الرثة خلف سوق الحرامية.

الشيخ سعد المتواري خلف الأوتستراد الذي يلم السوبرماركات، والمطاعم المليئة بالعشاق والملونين وأصحاب البشرات الناعمة والأذرع البيضاء.

السوق الطويل الذي يمتد من مدخل الغوطة حتى مدخل قرية عربين على المتحلق الجديد، هنا البضائع شبه الصالحة للاستخدام البشري، أسواقنا المتوارية خلف وجوه الباعة الممتقعين سواداً من الشمس الحارقة.

في أكثر الحالات كرامة ازدهر سوق التقسيط في حالة استغلال لا توصف، يضرب سعر القطعة، لكنك تشتري قطعة جديدة، صينية كانت أو كورية، ليس بالأمر المهم. 

طبقة واحدة.. حزينة

لسنا سوى طبقة واحدة، الحديث المريب عن طبقات المجتمع يبدو ضرباً من الهذيان، البقية التي تعيش حالة الاسترخاء لا يمكن أن نطلق عليها طبقة، من حيث العدد، الإمكانيات، التوضع الجغرافي، الألم.

لسنا سوى طبقة تضم كل السوريين في الوجه الأول للعملة، ووجه لا يضم إلا البعض الذي يستمتع بوجع الوجه الأول.

نحن كل الذين رفع الدعم عنهم وأعيد توزيعه علينا بالقسائم، نحن الذين نتدافع في طوابير طويلة حين الأزمات، أمام محطات الوقود والأفران.

نحن الذين نحب الله والوطن، وننجب الأولاد الذين يذهبون إلى المعارك، دون أن يعرفوا مذاق (الهوت دوغ وكنتاكي)، ولم يدخلوا إلى الفنادق ذات النجوم الكثيرة..

نحن أبناء الطبقة التي (لم تتعلم الضحك في مدرسة دريد لحام) وفق رأي الشاعر رياض الصالح الحسين الذي مات فقيراً وحزيناً..

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 01:58