مطبات: إغفاءة
يستيقظ السوري كما كل البشر منذ الصباح، من مأواه، أكان سريراً وثيراً، أو فراشاً من الإسفنج المقوى، ولا يعنيه أكان (سليب كومفورت) أو محشواً ببقايا الألبسة والقطع القماشية، المهم في نوم ليس على الأرض.
ككل البشر يحلم السوري، ويسعى لتحقيق الحلم، يولد ككل الأطفال حالماً ويموت ككل العجائز حالماً، يعمل كبني البشر ويدرس ويفشل وينجح، ويتوظف إن تمكن من ذلك، يتزوج وينجب أيضاً إن أسعفته الرجولة، ويحج إلى بيت الله إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
من الرحلة الأولى، اللاوعي الذي يشبه المشاع، يرى حوله الكبار يشكون من ضيق الحال، ضيق بلاد الله الواسعة، الأب والجيران والأقارب، وفي المناسبات الجمعية يلبس الرث، وفي طلباته الصغيرة عن لعبة أطفال بلاستيكية يرسله الأهل إلى الإجابة التي سيكتشف مدى قسوتها حينما يكبر إن شاء الله أن يكبر، سيكتشف الحقيقة (أول الشهر)، الكلمة التي لا يطيق لها الخروج من فم أحد.
يشب السوري كما كل البشر، يراهق، يعيش غرائزه السرية، ويحلم بمراهقة من غير طبقته، لونه، لا فرس أبيض ولا سواه، لا أحلام عبد الحليم حافظ، ولا اللحظات الفاجرة لنزار قباني، يحلم، لكن هناك من سيقوده إلى مكان آخر، الدراسة التي من خلالها سيكون موظفاً، أو معلماً، أو طبيباً، ضابطاً، سيترك المراهقة وتسقط بنت الجيران في قلع ذاكرته، يبدو الحلم الجديد أكثر رجولة ومنطقية، ويتورط الولد الصغير من هنا بلعبة اللاعودة، القرارات الخائبة، القرارات الجريئة جداً حتى الرعاف عندما يرتفع الضغط عنده أكثر من (16)، وسيصيح الرفاق أمام حجرة الإنعاش.. ما زال صغيراً على هكذا أمراض.
السوري المسكين خدعته الطموحات الصغيرة، تخرج من جامعته، معهده، ثم تطاول الحلم عندما صارت مكاتب التشغيل بوابة تحقيق الحلم، غفا وهو يعد الآلاف السبعة التي سيتقاضاها في أول الشهر عن أكثر من ربع قرن من الدراسة، عن كل الليالي التي سهرها على التقنين الكهربائي، دعاء الأم، بكاء الأب عندما صدرت نتائج (البكالوريا)، ثمن علبة الشوكولا التي سجلها أبو سليمان على الدفتر، ثم صياحه: لولا أن الولد نجح في الشهادة ما (دينتك).
كبر السوري، الوظيفة تحققت حتى لو بعقد سنوي، المهم راتب أول الشهر أو آخره، ولكن السعادة لم تستمر، تزوج في الخامسة والثلاثين غير البنت التي حلم بها، وغير بنت الجيران، وغير الفتاة التي تعرف عليها بالجامعة، عاد إلى خيارات الحريم.
في إغفاءة سرقها من يومه الطويل المتعب، استرجع شريط الأحلام والخيبات، لم يحقق أية صورة تخيلها، موقف من أحلام اليقظة التي أمطرت كل ساعات القيلولة، بين استراحات الدروس العسكرية، بين محاضرة ومحاضرة في الجامعة، أثناء تشييع صديق مات بالجلطة، أما هو البليد فصمد حتى هذه الإغفاءة على الأقل.
الموظف العنيد الذي تقاعد، أنجب خمسة أطفال، وبيت بالإيجار، ودوام بعد الوظيفة سائق تكسي للعموم، لا هم لديه سوى إطلاق عبارات الرجاء، للشرطة وللزبائن، تعلم لغة جديدة تساوي التسول، الاستجداء، الشفقة، غابت الأحلام والطموحات في لغة لا تهادن، إصلاح المعوج، محاربة الفاسدين، الحب كزير أو كعنتر، الشعارات الكبيرة عن الأمة حتى هذه يتضاحك منها، شاهد المد النضالي، وشاهد الخيبات الكبرى، وأحياناً وفي كان وحيداً في الهم والحلم.
لم يستيقظ المواطن بأحلامه الصغيرة والكبيرة من غفوته، نام على الكرسي الخشبي الذي ورثه من والديه، من البيت القديم الذي شهد كل ورطاته، التربية الحسنة أو الخاطئة التي جرته إلى الإغفاءة الأخيرة على الكرسي الذي ورثه مع كل مبادئه التي مات على هدهدتها.
السوري العادي لايبالي بالشراكات، هبوط النفط، تراجع أسعاره، الأزمة المالية، البورصات المنهارة، البنوك المفلسة، الضرائب الجديدة، القديمة، النظافة، الترابية، الدخل، متفرقة أو مدمجة في واحدة... ما يتمناه إغفاءة على كرسي لا يرث الخيبات.