أحلام الفقراء.. كوابيس!
جمعتُ في نهاية الموسم الزراعي كل مدخراتي، واستدنت مبلغاً من أحد الأصدقاء المقربين، وقررت أن أحقق حلمي باقتناء سيارة، فتوجهت إلى أحد مكاتب السيارات، واشتريت سيارة (بيك -آب) صغيرة بالتقسيط، وعدت إلى المنزل وأنا أقودها مزهوّاً.. وكانت هذه أولى الأفراح.. وآخرها!!
فبعد أيام قليلة اتصل بي صاحب المكتب ليخبرني أن مالك السيارة القديم يريد نقل ملكيتها إلى اسمي، فاستجبت لطلبه، وذهبت إلى مديرية النقل في مدينة حماة برفقة مالك السيارة القديم.. عند بوابة المديرية فوجئت بعدد كبير من معقبي المعاملات يجلسون مترصدين الزبائن، وكل منهم أمامه طاولة متنقلة صغيرة..
«طلباتك يا أستاذ؟ تفضل، ماذا تريد؟».. أحدهم استطاع إقناعي:
«أنا أستطيع أن أنجز لك عملك بسرعة.. يا أستاذ باين عليك ابن حلال وهيئتك تعبان.. من آخرها (ألف ليرة) أتعاب، أما الباقي من إكراميات وبخشيش للموظفين والرسوم فأنت تدفعها»!. قلت له: لا، ادفع أنت، وبعدها نتحاسب.. وأعطيته عشرين ألف ليرة دفعة أولى على الحساب..
تناول معقب المعاملات المبلغ، ودخل المبنى مسرعاً، ولم ينتظرني، فمضيت خلفه لاهثاً، وهو يصعد إلى الطابق الثاني تارة، وينزل إلى الطابق الأول تارة، ويقف أمام نوافذ الموظفين. وكان الموظف ينظر إليه بابتسامة، وكنت أشاهده كلما ناول المعاملة إلى الموظف يدس في يده مبلغاً من المال من فئة ال(500) ليرة في معظم الأحيان. بعد فترة طلب مني إدخال السيارة إلى داخل بهو المديرية لعرضها على اللجنة الفاحصة، وهنا طلب مني مبلغاً إضافياً قدره (عشرة آلاف ليرة) فأعطيته المبلغ على مضض، واستمرت العملية – المعاملة إلى ما قبل انتهاء الدوام بربع ساعة، عندها قال لي مبتسماً ابتسامة النصر: «مبروك أستاذ.. هذا دفتر الميكانيك، وهذه اللوحات جاهزة».. ثم أخرج ورقة وقلم، وصار يسطر عليها، وفي أسفل الورقة، جمع كامل المبلغ الذي دفعه، وإذ به يصل إلى خمسة وأربعين ألف ليرة سورية ونيف.
هنا طار صوابي وفقدت عقلي، وقلت له يا أستاذ ما هذا؟ إن هذا المبلغ يساوي ثلث ثمن السيارة!!.. وبسبب صراخي اجتمع حولنا عدد من معقبي المعاملات، وراحوا يهدؤون من روعي ويطلبون مني التروي، وحين هدأت ثورة غضبي، شرح لي معقب المعاملات ما جرى بالتفصيل:
«كل شيء مسجل قدامك أستاذ:
الفراغة: 10000 ل.س، الإكراميات والبخشيش والتأمين 2800، اللجنة الفاحصة 500، طابع تسجيل 18000، الميكانيكي 200، طوابع معاملة 500، رئيسة الدائرة 500، تركيب لوحات 300، الموظف الثاني 300، موظف اللوحات 500، الموظف الذي أعطانا دفتر الميكانيك 500، الآذن الذي جلب المعاملة من المستودع 300، أمين الصندوق الذي قطع الوصل لتسريع الدور 200، النقابة 500، فلان 500، وأبو فلان 500، والأستاذ 500، والمهندس 1000.. أتعابي 1000».. وهكذا، حتى أكمل الحساب..
دفعت له ما تبقى في ذمتي.. وركبت السيارة التي تحولت من حلم جميل إلى كابوس.. وعدت مهدوداً إلى بيتي ولسان حالي يقول: الله يلعن الأحلام وساعتها!!