مطبات: صك براءة.. وبعد؟
أخيراً أعلنت وزارة الصناعة من خلال تقرير مركز الاختبارات والأبحاث الصناعية براءة مرتديلا (هَنا)، وعدم مسؤوليتها عن الموت الذي لحق بطفلين في حلب وبعض التسممات والأمراض. وعلاوة على ذلك منحها التقرير شهادة المطابقة لجميع المواصفات السورية القياسية.
إذاً، معلبات اللحم التي توازعت إعلانات جودتها، ولذتها، وصناعتها عالية الجودة كل الصحف السورية العامة والخاصة، التلفزيونات الخاصة والحكومي، الشوارع، صارت حكاية أثارت الرعب في قلوب وبطون السوريين، حتى أولئك الذين تناولوها قبل أزمة الموت والثقة.
فجأة هلّل الذين انتظروا على مهل سقوط منتج يشيعونه في حفلات الصحف، الباحثون عن قربان لقهرهم، وكبتهم، أما الذين أكلوا من مال أصحابـ(ها) قبل لحمها تريث بعضهم، واحتار الآخر حتى بداية تكشف القضية، والبعض آثر أن يرتدي ثوب الموضوعية حتى لو بنشر خبر يعزز حياديته وموضوعيته، ويحفظ له خط (الرجعة) للمعلن إن صدرت براءته، وللمتلقي فيما لو تم تجريم المعلن.
موت الطفلين في حلب واتهام المرتديلا كانا بداية الفضيحة، الخيط الذي قاد لاكتشاف القاتل الحقيقي (إذا لم تصدر براءته)، الفضيحة التي كشفت موت العشرات نتيجة حبة الغاز، موت كبير يتخفى خلف موت كبير أيضاً.
ككل ما يمر في حياتنا، هناك من يسرق ويسطو ويرتشي، ثم يكيل التهم إلى ضحايا محتملين، ليست (هذه المرتديلا) كمنتج وطني بعيدة عن التعثر والخطأ، لكن الحملة الشعواء ليست وحدها من أضرت بها، كمواطن عادي سمعت من مواطنين عاديين قصصاً كالخيال عن هذا المنتَج، المواطنون انساقوا لترداد نشيد التخوين والغش، أحدهم روى عن شاهد عيان لمجموعة تجمهرت حوله: بالأقدام يخلطون اللحمة، اللحمة التي لا يعرف مصدرها، أحد المواطنين غير العاديين: كل السيارات التي ضبطتها الجمارك من لحوم فاسدة وغير صالحة للبشر كانت متوجهة إلى معامل (المرتديلا)، والمواطنون العاديون المتمجهرون يتوجهون بالدعاء إلى الله: (الله لا يوفقهم).
في الوقت نفسه، في ذروة الحملة لم تنزل العبوات (المخيفة) من رفوف المحلات، لم يصدر عن وزارة الصحة أو الصناعة أي تصريح للمواطنين، أن تريثوا أو توقفوا أو ابتعدوا، في انتظار أن يأتي ما يتيح لهذه المؤسسات أن تأخذ موقفاً، وهنا لا بد من توجيه تحية لأصحاب (الماركة)، الذين لم يرتبكوا رغم الخسارة المادية والمعنوية، العقود الخارجية التي ألغيت أو تم إيقافها ريثما تصدر البراءة.
(هذه القضية) من فتحت العيون على الموت المجاني الذي لم يتوقف في حلب، ولم تقبل أن ترتهن لتغطية فضيحة أكبر، وهذا ما يثير أسئلة عن الفضائح الكبرى التي ألصقت بالآخرين ولم يستطع أحد ان يمنحهم البراءة، ولا شهادة حسن سلوك، من الأطفال مقطوعي الأرجل الذي يتهم الفقر كسبب في رميهم على الأرصفة، بينما عصابات التسول المنظم تقف وراء عاهاتهم وتسولهم، ووراء كل هذا مؤسسات حكومية عاجزة عن القيام بدورها، ووزارة شؤون اجتماعية تتباهى بمراكز التأهيل التابعة لها، ودور الإصلاح التي تشرف عليها.
الأسواق التي تعيش في فوضى من الغلاء والاحتكار، الغلاء العالمي، المواسم السيئة، الأسمدة الغالية، الأزمة المالية العالمية، التهريب..الخ، أسباب واهية تخفي وراءها أسباباً حقيقية تعيشها السوق السورية، وضحيتها المواطن السوري الذي يئن تحت دخله المحدود، وأزماته المتلاحقة، فيما يكمن السبب الرئيس في قوة احتكار التجار، ونزعهم لدور الدولة في الرقابة والتدخل الحقيقيين، فما معنى أن يرتفع سعر سلعة ما نتيجة ظرف عالمي أو محلي، ولا يهبط سعرها نتيجة زوال الظرف، وهذا ما يمنح اقتصادنا ميزة عن اقتصاديات العالم أجمع، اقتصاد السعر الصاعد فقط.
وبعد.. انتهت الأزمة رسمياً، لكن الأزمات الكبرى في اقتصادنا لم تنته، قبل شهور قليلة بدأت أزمة (الدخان) الأجنبي، ثم تبعتها أزمة الدخان الوطني، من الطويلة الحمراء القديمة المفقودة، عمليات منع التهريب، السوق الحرة والسوداء.. إلخ.. أزمة ليست من إنتاج (هنا).