عن الجيوب والقلوب
هي كل الأيام الصعبة الآن، الأيام التي لا تتوانى عن دفعنا للضحك وابتداع النكات، وفي الوقت نفسه يقطر العقل دمعاً من فرط الجنون والحيرة.
بالأمس كنا نعدد مناقب الحكومة المنصرمة: هنا أفقرتنا عن قصد لأجل تصريحات الوهم، وهنا توقف بنا الزمن ننتظر فضائل إصلاحها بألف ليرة، وهنا يمسك العامل قلبه مرتعشاً على وعد ألا يطرد من وظيفته عندما يعربد رب العمل من فرط انتفاخه، وهناك فلاح يجلس علىذكريات القطن والقمح والنهر العامر بالماء والمشاوير.
بالأمس صببنا جام لعنتنا على اقتصاد السوق الذي لم ير فينا أكثر من ملايين مذعورة تحت أنعال المتكرشين الأثرياء.. ألم يفصلوا لهم عباءة من ذهب ولنا أسمال الريح؟ ألم تطفح من أسمائهم رائحة الغنى الجديد، ومنا رائحة العطن والعرق والفقر المغمس بالقهر، وفوق كلهذا فصّلت لهم المؤتمرات الصحفية، والصحفيون الألمعيون من ماركة التغطيات المأجورة، وبالمقابل غاب الناس عن إعلامهم، وصورنا على أننا نمارس الحياة بكل لذة العناق؟.
منذ أيام لم تنس بعد.. تم تسجيلنا في قوائم المعونة الاجتماعية، وتقاسم معنا معونة الحكومة من تم تسجيلهم (بالمعية) على أنهم يشبهوننا، وتغنت وزيرة العمل بالخريطة الموزعة بدقة وبقلة الأخطاء في عمل لجان المسح، ومن ثم جاءت النتائج المتوقعة شكاوى بالآلاف عنالآلاف التي صرفت لمن لا يستحق.
في أمسها القريب.. أخذتنا الحكومة المنصرمة إلى أقصى الحلم، وإلى أقسى الوقائع.. ألم تدربنا على الانتظار، وضبط النفس، وحكمة الفقر، وحِلم الضعيف، وفي أوج اعتلائها لظهورنا المحنية انتزعت منا الدعم الذي كان ثديها في أفواهنا منذ أن صرنا مواطنين في هذا البلد،وعمّ في عهدها الميمون بلاء التسول والتشرد والجريمة بأنواعها، وتكاثر المهجّرون من شرق البلاد في كل الجهات، وأنجبوا أطفالاً في خيام الجغرافية المؤقتة، وكل هذا كان باسم سوق جديدة تجعلنا في مصافي مواطني الجوار في أحسن الأحوال.
اليوم.. هذه أيامنا القاسية، وهذه الحواجز التي توزعنا مواطنين ملونين بالفقر، الحواجز التي نرفع فيها عالياً هويتنا، ونحفظ أرقامنا الوطنية الطويلة عن ظهر قلب، وندور حول حيرتنا المقدسة مع أي لون نحن، وما شكل هذه الانتماءات الصغيرة التي تجعل بعضنا خلفنا، ومنكانوا يتسابقون لكشف عورات الحكومة السابقة لا يرون عوراتنا، وبالكاد نصدق أن هذا اليساري صار يمينياً صلداً، وهذا المنافح عن الحكومات أياً كان شكلها لا يغيّر وجه انتهازيته لتمر الريح.
اليوم.. يمسك السوريون ليراتهم الخائفة القليلة ليوم حاجة، ويعود الزوج القديم إلى حضن امرأته وبنبرة المحب يتحسس يدها: رفقاً بالمصروف فالأيام المجهولة تأتي دون موعد، وأما رغبات الصغار بالصيف والشمس والماء المالح باتت ضرباً من المستحيل، وبعض الفرجيكون بلباس صيني خفيف تضج به الأسواق التي يتصيدها الغرباء بينما يضع أصحاب محال شارع الحمراء أيديهم على الخدود بانتظار المعجزة.
اليوم.. هذي الحكومة الجديدة الصامتة، والصامدة على الأقل عند خيبات الحكومة السالفة تقف على مفترق لا تحسد عليه، تركة كبيرة من التخبط، وحزمة لا تنتهي من طموحات المرحلة.
في جوار قلبي.. من جديد، يدخل جهاد أسعد محمد دائرة اغترابه، وفي قسماته إيحاء غريب بأنه لن يخرج منها إلى انفجار الكتابة، ومن بعيد، وبدون أن أستعير سلاطتي وعبثي في دفعه إلى الحديث.. يهم - الرجل المحمّل بالأسى والحب- بالكلام، لكنه ينحني أمام خيبة في ذاتهالمقهورة، وكأنه يخشى من افتضاض الطريق الذي أخذ منه عمره.. كأنها رايات النهايات يلوّح بها قبل بلوغ النهاية.