إضاءة على القيم والأفكار في مناهج اللغة العربية
من المتعارف عليه أنّ لكل منهاج تعليمي أهداف تعليمية وثقافية وتربوية، ومن خلاله يتم تقديم المعلومات وغرس القيم، وتوظيفها في المجتمع للارتقاء به، وبقدر ما يكون المنهاج مختاراً بدقة ووفق حاجات المجتمع ويقدم له بطريقة صحيحة، بقدر ما يحقق أهدافه.
لا شك أن تناول القيم والأفكار في مناهج اللغة العربية ككل يحتاج إلى جهد العشرات من المختصين، ليس باللغة العربية فقط، وإنما بعلم النفس والمجتمع والتاريخ والثقافة وغيرها.. وليس في مناهج اللغة العربية فقط أيضاً، وإنما في جوانب الحياة والثقافة والتاريخ والتراث كلها، وغيرها، لبناء ثقافة وطنية حقّة. لكن سنتناول في هذه الإضاءة منهاج اللغة العربية في التعليم الفني والمهني الثانوي، فهل حقق هذا المنهاج تلك الأهداف؟ وما هي النقاط الإيجابية والسلبية فيه كماً وكيفاً، وما هي المقترحات لتطويره؟
ملاحظات عامة
قبل الدخول في التفاصيل، يمكننا سَوْق بعض الملاحظات العامة الآتية:
- هناك العديد من القصائد والنصوص المعبرة والمناسبة يجب تثبيتها وإضافة مثيلاتها التي تمجد الوطن والتعلق به، كالتي تعبر عن حبّ العمل، وتتحدث عن الفن والجمال، وتراثنا الثقافي والأدبي يزخر بالكثير منها.
- يوجد كمّ كبير على حساب النوع، وغالبيتها تعتمد على الذاكرة الحفظية، يجب التقليل منها، والتوسع في مجال التطبيقات على النصوص، التي تعتمد على تنمية التفكير وتنمية الذائقة الأدبية، وغرس قيم القيم الإنسانية، وقيم الحب للناس والطبيعة.
- يجب اختيار القصائد والنصوص المناسبة لكل مجالٍ فني ولو كانت أبياتاً قليلة، لا وفق النظرة الشمولية لتاريخ الأدب وتقسيمه الكلاسيكي: أدب جاهلي وإسلامي وأموي وعباسي، ومملوكي وغير ذلك. ووفق قيم تجاوزها الزمن.
عناوين ونصوص خطرة!
في استعراضٍ سريع لبعض العناوين والنصوص، وجدنا كماً دموياً وبالياً وخطراً على الطالب والمجتمع، ويمكننا أن نشير إلى البعض منها ونتساءل ما الجدوى منها؟
هل من المعقول أن تكون قصيدة امرؤ القيس (رحلة الثأر) موجودة في القرن الحادي والعشرين؟ أو قصيدة عنترة (الفارس الشجاع) وسيفه المُشْهَر بدل سيف يوسف العظمة، ألا يكفينا عناترة هذا الزمان أمام المخابز والحواجز وغيرها، والذين يظهرون بطولاتهم على المواطن المنهك، أو سيوف التكفيريين الفاشيين التي تقطع الرؤوس؟ وكذلك قصيدة الأعشى (ودع هريرة) أين هي من المواطنين الذين أبحروا وغرقوا في البحر الأبيض المتوسط دون أن يتاح لهم توديع أهاليهم ووطنهم؟
ولعل قصيدة جرير (عطية الله) في مدح عبد الملك بن مروان وتمجيده ترسخ الانتهازية والسلطة وأمثاله كُثر في عصرنا، فرضتها ثقافة اللون الواحد، وتأتي قصيدة بشار بن برد (بنو الموت) لتزيد الطينَ بِلّةً، بقوله:
بضربٍ يذوقُ الموتَ من ذاق طعمَه
ويُدرِكُ من نجّى الفرار مثالبُه
وقصيدة أبي تمام (البطل الشهيد) في رثاء محمد بن حميد الطوسي، ونترك القصائد التي تمجد شهداء الوطن وأبطاله كيوسف العظمة وأمثاله، وكذلك قصيدة قطري بن الفجاءة (وقفة عزّ) وقصيدة الخنساء (حامل اللواء) وقصيدة المتنبي (أطاعِنُ خيلاً) وقصيدة أبي فراس الحمداني (الأسير البطل) وهناك العديد من العناوين والنصوص الدموية والتي تدعو لتمجيد الحكام والقتل بالسيف وإسالة الدماء والبطولات الوهمية، والتي لا تناسب المرحلة ولا تنمي التفكير، وتغرس قيماً بالية.
هذه العناوين والنصوص تثير التساؤلات الكثيرة حول أهداف اختيارها اليوم، ومن اختارها لتكون في منهاج طلاب التعليم الفني والمهني، والذين من المفترض أن ينخرطوا في العمل وبناء قوته المادية والاجتماعية، والذي له قيمه الخاصة والعامة التي تحث على العلم والعمل ومحبة الوطن وخدمة المجتمع بالإضافة لقيم الجمال!؟
قصائد تستحق.!
هناك الكثير من القصائد والنصوص التي أبدعها أدباؤنا المعاصرون والتي تنمي القيم الوطنية، كقصيدة خليل مردم التي تتحدث عن ميسلون ويوسف العظمة، بقوله:
أيوسف والضحايا اليومَ كُثْرُ
ليهنكَ كُنتَ أولُ من بداها
وقصيدة بدر الدين الحامد عن الجلاء، بقوله:
يوُمُ الجلاءِ هو الدنيا وزهوتها
لنا ابتهاجٌ وللباغين إرغامُ
وقصيدة خير الدين الزركلي (نجوى) التي تحثُ على محبة الوطن، بقوله:
العينُ بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألِفتْ ولا سكَنا
ولعل قصيدة محمد الفراتي (حب العمل) خير معبر عمّا ننشده ومنها قوله:
فلو كنتُ رساماً لرسمتُ بريشتي زميلي (جان فالجان) في ظُلمة الحبسِ
ولو كـنتُ بنـاءً بنـَيتُ كـما أشـــا
قصـــوري بالآجـر والطــين والكلــس
ولو كنتُ نجاراً لأتعبتُ ســاعدي بكـــــدحي بالمنـشـارِ طـوراً وبالفـأسِ
ولو كـنتُ جَنّاناً غرسـتُ بجـنتي
نخــيلاً وأعنـاباً فأثــمرَ لــي غـــرْسي
هذه القصيدة الرائعة تحمل كثيراً من القيم التي تحث على العمل بمختلف المهن والإبداع بالرسم، والتعاطف مع البؤساء والقيم الإنسانية للبشرية، فجان فالجان صديقه هو بطل رواية البؤساء للفرنسي فيكتور هوغو، وصور القصيدة مستوحاة من بيئتنا ووطننا، وتناسب ظرفنا ومعاناتنا الحالية، كما أنّ ألفاظها ليست مقعرة مما يسهل حفظها وتناسب طلاب المهني والفني، وهناك عشرات النصوص والقصائد التي تتحدث عن بردى والعاصي والفرات والوطن موجودة في أدبنا، بعكس القصائد الموجودة حالياً في مناهج التربية والتعليم، ومنها منهاج اللغة العربية للتعليم الفني والمهني.!
حَيرَةٌ ومعاناةٌ.!؟
يعتبر المدرس أحد أهم أركان العملية التربوية والتعليمية، ولن نتناول مسألة إعداده ودوره في نقل وغرس القيم، لكن نتحدث هنا عن علاقته بهذا المنهاج الذي يضعه في حَيرَةٍ ومعاناة كبيرة، فهو مُلزمٌ بتدريس هذا المنهاج، فكيف عليه أن يوصل قيم القتل وصور الدم الموجودة وهو ضِدها وخاصةً في هذا الظرف بعد خمس سنوات من معاناة الشعب السوري، أليست كافية هذه السنوات بإعادة النظر بمناهجنا التعليمية والتربوية، هذا في المدارس فكيف بالجامعات وبقية المؤسسات التعليمية وحتى ببقية دوائر الدولة والمعامل والمصانع التي نحن بأمس الحاجة لتنمية الثقافة ككل بقيم إيجابية تعزز الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع، ولعل إهمال ذلك كان من الأسباب الأساسية في سهولة اختراقنا من أعداء الوطن والشعب، ومن القوى الظلامية الفاشية التكفيرية التي تسعى لتفتيته والعودة به إلى الوراء مئات، بل آلاف السنين، أو الثقافة الانتهازية والتملق للحُكام والظَلَمة، وهو ما حصل خلال السنوات الخمس الأخيرة.!
وأخيراً، هذه الإضاءة السريعة تفتح الباب للمناقشة وإعادة النظر، ليس بمناهجنا فقط، وإنما بمؤسساتنا التعليمية والثقافية وبدورها، وبتراثنا التاريخي والحضاري بكل جوانبه الفكرية والدينية واستبعاد الغث مِنه، والكشفِ عن الجوانب الإيجابية والإنسانية وقيم العمل والمشاركة، التي تتمحور حول مقاومة الظلم والاستغلال، ونشر المحبة والسلام، ونبذِ الكره والحقد، وبناء ثقافة مقاومة بدل ثقافة القتل والدم والهزيمة والاستسلام ليس في وطننا فقط.. بل في المنطقة كلها، ولدى شعوبها الحية منذ آلاف السنين بعلاقات وحضاراتٍ متعاقبة ومتراكمة أبدعت الأبجدية والكتابة والعلم والموسيقى والفنون، والمتجسد في الكم الهائل من الآثار منذ وجد الإنسان إلى الآن.