!المحرومون من السكن، وتجار البناء الانتهازيون.. استغلوا الظروف لتمرير مشاريعهم
يوسف البني يوسف البني

!المحرومون من السكن، وتجار البناء الانتهازيون.. استغلوا الظروف لتمرير مشاريعهم

لم تعد العناوين العريضة للأزمة الوطنية التي تمر بها سورية الأمر الوحيد الذي يؤرق المواطن السوري، بل هناك أعراض جانبية لها ترافقها وتعقدها وتساهم بخلق مشاكل فرعية يصعب حلها على المدى المنظور، فقد اشتكى كثير من المواطنين من تضررهم من مخالفات البناء التي ازدادت مع اشتعال الأزمة وطغت آثارها السلبية على ممتلكاتهم وحياتهم الخاصة، وخاصة أولئك الذين تم الاعتداء على وجائبهم وفسحاتهم السماوية، وقامت فيها أبنية جديدة مخالفة ضيقت على حق الآخرين بالشمس والهواء، وتم غض النظر من الكثير من البلديات، فقد شيدت المخالفات في مناطق واسعة التهمت الكثير من البساط الأخضر في الأرياف وحتى الحدائق والأرصفة في المدن، وعلى مرأى وعلم من الجهات المعنية، وغض النظر من المسؤولين عن الأمر، فكيف تم ذلك؟! ولماذا؟ ومقابل ماذا؟

لم تحرك البلديات والمحافظات ساكناً، بل إن جل ما قامت به دوريات المحافظات والبلديات هو فتح طاقات عشوائية في السقوف أو الجدران المخالفة ليعاد بناؤها في اليوم التالي أو بعد ساعات قليلة، رغم وجود المرسوم التشريعي رقم /59/ لعام 2008 القاضي «بإزالة الأبنية المخالفة ومخالفات البناء كلها، ومهما كان نوعها، بالهدم مع مراعاة المخالفات القابلة للتسوية».

 

معظم هذه المخالفات قامت في مناطق العشوائيات التي يشترك أهلوها في صراعهم اليومي من أجل تأمين الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والبنية التحتية شبه المعدومة للصرف الصحي والنظافة، وما يزيد الطين بلة في هذه الأزمة هو تضاعف السكن في هذه المناطق مع قدوم وافدين جدد إليها هرباً من أماكن التوتر، ليقعوا في واقع جديد مؤلم فرض نفسه عنوة على الناس، إلى جانب صعوبة الوضع المعيشي المترافق مع غلاء الأسعار المستمر، وجشع التجار الذين لم يكتفوا بما امتلأت به جيوبهم، بل يسعون دون كلل ودون رحمة أو شفقة لامتصاص دم المحتاجين للسكن، مستغلين في ذلك الأزمة لتحقيق أكبر وأسرع ربح يرضي طمعهم وشجعهم، فإضافةً إلى «بيوت السترة» التي «هرَّبها» المحتاجون للسكن، فإن المخالفات الكبرى هي المخالفات التي بناها تجار البناء، ولاسيما إنشاء مشاريع مخالفات كبيرة تتألف من أبنية كثيرة وبعدة طوابق، وكلها مخالِفة للقوانين والأنظمة ولشروط السلامة العامة، الأمر الذي يشكل خطورة كبيرة في المستقبل على ساكنيها.

جالت كاميرا «قاسيون» في محافظة دمشق، حيث نجد أكبر تجمع للعشوائيات على الشريط المحاذي للمدينة، وهذه العشوائيات تمت إقامتها دون موافقة، ودون مراقبة لشروط السلامة، وقد تم طرح تنظيمها ولكن كل مشاريع التنظيم تم توقيفها في صفقات فساد أو إهمال وتجاهل. وفي كثير من المناطق التي تشملها مخططات تنظيمية شهدت مخالفات بناء، حيث قام بعض المواطنين القاطنين فيها بضم فسحة سماوية  دون وجه حق، وبنائها دون الحصول على أي ترخيص من البلدية، وأحياناً تم تشييد أبنية من ثلاثة طوابق حاجبة نور الشمس والهواء عن الجوار، حتى أصبحت المنازل المجاورة لها مجرد أقبية!! وهنا نعود ونتساءل: كيف تم ذلك؟! ولماذا؟ ومقابل ماذا تم التغاضي عن هذه المخالفات؟!

وفي ريف دمشق أيضاً، شهدت معظم المناطق نهضة عمرانية واسعة لم يسبق لها مثيل، وكانت معظم المخالفات في المناطق غير المنظمة والتي تعاني من ضيق المساحات التنظيمية، وتم الاعتداء على المساحات الزراعية التي تحول الكثير منها إلى كتل اسمنتية تشوه بيئتنا وحياتنا معاً.

 

نشط التجار وغضت البلديات النظر

أثناء جولة كاميرا «قاسيون» على منطقة مساكن برزة، التقينا أحد المواطنين الذين تم حجب الشمس والهواء عن مسكنه المتواضع، وقال: «مثل الكثيرين الذين استغلوا الأزمة واستغلوا حاجة الناس إلى مسكن يؤويهم، قام تاجر عقارات بإشادة بناء مخالف في الوجيبة وملاصق للبناء الأساسي، حتى أصبح البناء الجديد على ارتفاع البناء القديم، وكل ذلك دون ترخيص ودون أن يوقفه أحد رغم الشكاوى التي كنا نرفعها للجهات المعنية. لقد ازداد نشاط تجار المخالفات في وقت يغيب فيه دور البلديات أو تتواطأ معهم لإتمام مشاريعهم، وهي تغض النظر عنهم، مع أنهم في السابق كانوا يقومون ببناء المخالفات في الليل وتقوم البلديات بالتستر على مخالفاتهم سواء عن طريق دفع رشاوى لموظفي البلديات أو عن طريق إتمام البناء بسرعة وتغيير ملامحه ليبدو قديماً، إلا أنه في هذه الأيام لم يعد التجار يتبعون هذه الطرق بل إنهم يقومون ببناء المخالفات بكل وقاحة وعلى عينك يا بلدية، وكأن أبنيتهم مرخصة، وهناك تجاهل واضح وصريح من المسؤولين لما يحصل».

ـ مواطن آخر قال: «إن ما يحز في النفس أن يستغل ضعاف النفوس هذه الأزمة التي تمر بها البلاد لإرضاء طمعهم وشجعهم في الوقت الذي يستدعي منا التعاضد والتراحم والتكاتف، إلا أن هناك جماعة من الانتهازيين تلعب في هذا الوقت حيث يتم البناء على الأرصفة وفي الوجائب وحتى في الحدائق، وهذا أمر غير مسبوق في تشييد المخالفات، لتساهم في خلق مشاكل مستقبلية، حيث أن معظم الأبنية المشادة بعيدة جداً عن شروط السلامة العامة ومهلهلة، لا تحتمل مجرد هزة صغيرة، ومعظم تجار المخالفات يقومون ببيع البيوت قبل بنائها أو أثناء إشادتها، وما إن يشتريها المواطن، لرخص سعرها، حتى تقوم البلدية بهدمها، فلماذا لم تهدمها حين كانت ملكاً للتاجر؟ لماذا لم يتم هدمها فور اكتشاف مخالفتها؟! أم أن هناك تواطؤاً أو مؤامرة من نوع ما بين تجار البناء والبلديات؟ يدفع ثمنها في النهاية المواطن المغرَّر به والمستغَل بسبب حاجته الماسة إلى مسكن يستر به عائلته ويقيها برد الشتاء وحر الصيف، ولكنه لن يفلح حتى في ذلك، لأنه سينتهي بسبب الفساد المعشش في بلدياتنا هو وعائلته في الشارع».

 

لا بأس بها كحلول فردية

ـ مواطن (محروق دمه) كما سمَّى نفسه قال: خلال خمسين سنة نعيش في حرمان وفي ضياع تام، وصار البيت حكراً على الفاسدين والحرامية، وقليل من الناس الذين يرثون عن أهاليهم، ومعظم شبابنا فقدوا الأمل حتى بغرفة تؤويهم وتسترهم، فلذلك اتركوا الناس في همها تداويه كما يحلو لها، لأن أحد أسباب الاحتقان والتوترات الحالية هو الحالة المادية السيئة للناس التي أوصلتهم إليها حكوماتنا، وشعور المواطنين بالتشرد والضياع لعدم وجود بيت يستقرون فيه، ثم أنه في ظل هذه الهجمة من المخالفات صار الشباب السوري يجد عملاً يسترزق منه بعد تهميش طويل وحرمان من فرص العمل، اتركوا الناس تشتغل وتعيش، لأن الحكومة كانت لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل على البشر، لا تعطي تراخيص معقولة التكاليف ولا توزع أراضي للجمعيات ولا توزع المساكن التي وعدت الناس بها ولا توفر فرص عمل للشباب الذي بدأ يدب فيه الانحراف والتشرد، أما في هذه الفترة فكل الناس وجدت عملاً، واللي ما عنده بيت صار عنده حتى ولو سقف بسيط يستره مع عياله، لأنه بالأساس أسعار المنازل النظامية فوق الخيال، وأغلى بكثير مما يستطيع المواطن ذو الدخل المحدود أو المتوسط تحمله، حتى ولو على أقساط، وهذا برأيي الأمر الذي اضطر الكثيرين من المواطنين إلى أن يتجاوزوا على القوانين في الأشهر الأخيرة، رغم أن البعض منهم انتهازيون اغتنموا الفرصة لجني مكاسب وأرباح إضافية إرضاءً لطمعهم وجشعهم، إلا أن الأغلبية الباقية كان همها السكن ولو في خربة».

 

المسؤولية على الطرفين:

المواطن والحكومة

ـ المواطن (حسان ع ق) قال: «إن هذه المخالفات بعض النظر عن الهدف منها وإلى أين سيؤول مصيرها، فهي تسيء إلى النسيج العمراني والمخططات التنظيمية التي من المفترض أن تكون موجودة ومنجزة سلفاً ومنذ القديم، إضافة إلى كون المخالفة قبيحة معمارياً وجمالياً، وتكلف المخالف في الوقت نفسه تكاليف باهظة لتعرُّضِه للاحتكار والابتزاز والاستغلال من تجار مواد البناء، وأنا أضع اللوم في هذه الظاهرة السيئة على الطرفين معاً، المواطن والحكومة بكل من يمثلها لعدم إنجازها المخططات التنظيمية وتغاضي الجهات المعنية والفساد المعشش في البلديات، وكذلك على طمع وجشع تجار البناء، إن جميع الجهات المذكورة تتحمل المسؤولية، فالمواطن يتحمل المسؤولية عن خرق القانون وتشويه النسيج العمراني، سواء كان هو صاحب المخالفة أو من يساعده ويتستر عليه من البلدية أو من يقدم له مواد البناء دون ترخيص، فالمواطن يجب أن يتحلى بالوطنية والمواطنة الحقيقية المسؤولة، ويكف عن استغلال الأوضاع الأمنية لتشييد المخالفات، وكذلك تجار البناء ومواد البناء ومسؤولو البلديات يجب أن يرتقي الجميع إلى مستوى المسؤولية الوطنية للحفاظ على الوطن وعدم الإساءة إليه. الحكومة والمحافظة والبلديات تأخرت كثيراً في إعداد المخططات التنظيمية ومناطق المخالفات تراكمت على مدى عقود طويلة وأصبحت حتى الأحزمة الخضراء عرضة لتمدد المخالفات بشكل سرطاني، وكان من الممكن الحد من ذلك بتنظيم المناطق المخالفة قبل إشغالها، وتدارك استمرارية تشييد هذه المخالفات، كما ساهم في تفاقم أزمة السكن وحاجة الناس إلى بيوت يسترون عائلاتهم فيها عدم قيام الدولة بخطط لتلبية حاجة المواطنين المتزايدة إلى البناء وتأمين السكن الضروري للحياة، فلا هي سمحت بتوسع التنظيمات بشكل قانوني وضمن مخططات تستوعب الزيادة السكانية، ولا هي سهَّلت على المواطن الحصول على تراخيص بناء نظراً للتكاليف الباهظة التي يتطلبها ذلك، ولا هي وفت بوعودها ونفذت مشاريع السكن التي تغنت بها على مدى عقود طويلة».

 

تشويه للمدن

وخطر على السلامة العامة

الكثير من ضعاف النفوس استغلوا ظروف البلد الطارئة والتوترات وسارعوا إلى تشييد الأبنية المخالفة الجديدة أو إضافة مخالفات إلى مخالفات سابقة، وحتى إلى أبنية طابقية نظامية، وانتشرت حمى المخالفات في جميع المحافظات السورية وخاصة في دمشق وريفها وحلب وريفها، وظهرت أبنية كاملة مخالفة ومحلات تجارية مكان السكن وأبنية طابقية في الوجائب والفسحات السماوية والهوائية وفيلات أيضاً، واعتدت الكثير من المخالفات على أملاك الدولة أو أملاك الغير وعلى حق الآخرين بالشمس والهواء، وهذه المخالفات تعتبر ظواهر خطيرة على السلامة العامة لاسيما وأنها شُيدت دون دراسات أو أسس هندسية تحفظ أصول البناء والإنشاء وتضمن السلامة العامة، حيث يقوم المخالفون بتنفيذ هذه الأبنية بسرعة هائلة ودون احترام لقواعد وأصول طرق البناء والإنشاء، أو دون التقيد بمواصفات مواد البناء وكمياتها مثل البيتون والحديد ومتانة (البلوك) ما يمكن أن يؤدي إلى كوارث مستقبلاً وتعريض من سيسكنها إلى خطر حقيقي. فلهذه المخالفات إذاً ضرر وخطر متعدد الجوانب فهي تشوه النسيج العمراني وتسيء إلى المخططات التنظيمية، وتعرض ساكنيها للخطر، وتسيء للمواقع المشادة عليها، وفي حال إساءتها لإملاك الغير أو للأملاك العامة فإن المصيبة ستكون أعظم، كما أن بعض المخالفات في الأبنية النظامية يسيء إلى الجوار بشكل كبير، ويجب عدم السكوت عن هذه الظاهرة، ويجب تطبيق القوانين بحقها وحق المخالفين.