بيع المستقبل ووأد الأحلام
لم يعد خافياً على أحد ذاك الفساد المستشري في بعض الجمعيات السكنية، والذي كان ضحيتها العديد من أعضائها الحالمين بالحصول على مسكن العمر، وهذا ما أكده وزير الإسكان والتنمية العمرانية في إحدى جلسات مجلس الشعب، مطلع الشهر، حيث صرح بأن هناك متابعة حثيثة لعدد من الجمعيات التي مارست الفساد والسمسرة بطرق مختلفة (شراء الأراضي من وراء الطاولة دون معاينتها).
وحسب ما صرح به وزير الإسكان والتنمية العمرانية، فإن الوزارة قامت بإنذار هؤلاء منذ الشهر السادس وحتى نهاية العام لتقديم الموافقات الصحيحة لإقامة تجمع عمراني، متعهداً بإحالة هؤلاء إلى الرقابة والتفتيش، بحال كانت العقارات غير صالحة للبناء. شباب ينتظر بدء الحياة
يشار إلى أن الاتحاد العام للتعاون السكني يضم حوالي 2800 جمعية سكنية بعدد منتسبين يقدر بحدود 600 ألف عضو، كل منهم ينتظر أن يحصل على مسكن العمر الصحي وبسعر التكلفة، عبر هذه الجمعيات المتوقفة حالياً بسبب الظرف الاستثنائي للبلاد، إضافة إلى عدم وجود الأراضي، مع بعض الإعاقات والصعوبات المتمثلة بمنح القروض اللازمة من قبل المصرف العقاري، ما يعني أن هذا العدد من المنتسبين ما زال منتظراً ذاك المستقبل الذي يسعى لامتلاك جزء منه عبر تأمين مسكن، كما أن هناك مئات الآلاف من الشباب المنتظرين أن تبدأ حياتهم، وأول أسسها تأمين مسكن المستقبل الملائم، سواء عبر جمعية سكنية أو غيرها، بما يتناسب مع الواقع الاقتصادي المعاشي لهؤلاء، الذين بجلهم من ذوي الدخل المحدود.
الأراضي ومشروع التعديل
ولعل موضوع تأمين الأراضي اللازمة للجمعيات التعاونية السكنية كان المشكلة والعائق الأهم منذ عشرات السنين، حيث أن تأمين الأراضي قانوناً يتم إما تخصيصاً من أراضي أملاك الدولة أو بالشراء المباشر من مالكي الأراضي من قبل جهات قطاع التعاون السكني مباشرةً، (وهو مايفسح المجال للشبهة ويؤدي إلى عزوف بعض الجمعيات عن ذلك الخيار) نظراً لسعر الأراضي الذي بات مرتفعاً وخاصة بعد دخول المطورين العقاريين على خط الاعمار وإشادة المباني، ودور السماسرة والمضاربين العقاريين الذين ساهموا برفع سعر الأراضي بشكل خيالي، خلال فترات زمنية قريبة وبعيدة.
وعلى هذه الأرضية يسعى الاتحاد التعاوني السكني إلى إعادة صياغة القانون الخاص بتنظيم عمل الاتحاد والجمعيات التعاونية السكنية، الصادر بالمرسوم رقم 99 لعام 2011، وذلك من أجل منح الاتحاد المرونة الكافية بشراء الأراضي وتقسيمها وتوزيعها، بدلاً من أن ينتظر التخصيص بالأراضي من قبل الجهات المعنية وفقاً للمرسوم المذكور، مع إحداث مصرف خاص بالتعاون السكني كي يتمكن من منح القروض اللازمة للجمعيات السكنية والتخلص من التبعية للمصرف العقاري بهذا الشأن مع مايرافقها من روتين وأولويات مختلفة لديه بهذا الشأن، بما في ذلك السماح للجمعيات بشراء الأراضي خارج المخططات التنظيمية لتحويلها إلى أراض عقارية معدة للبناء بإشراف الاتحاد.
جملة التعديلات المطلوبة من الاتحاد على المرسوم 99 آنف الذكر، تصب بخانة أن يتم منحه صفة المطور العقاري، أسوةً بغيره من القطاعات العامة والخاصة التي منحت تلك الصفة قانوناً عبر هيئة التطوير العقاري، كي يكون منافساً أهلياً بمجال إعادة الإعمار خلال المرحلة المقبلة.
مرونة مطلوبة
ومحاسبة يجب ألا تغيب
ولا يخفى على أحد أهمية قطاع الاعمار والإسكان بالمرحلة المقبلة، ليس على مستوى إنشاء التجمعات السكنية، وتأمين السكن اللازم لآلاف الأسر، وتطوير أماكن السكن العشوائي فقط، بل على مستوى تشغيل آلاف العاملين بالعديد من الحرف والمهن المرتبطة بهذا القطاع، ما يعني أن هذا القطاع سيكون له آثار وانعكاسات اقتصادية واجتماعية ومعيشية مباشرة، عامة وخاصة.
وعلى هذا الأساس فإن قطاع التعاون السكني الذي يهدف إلى تأمين الأراضي وتشييد المساكن وملحقاتها وتمليكها للأعضاء بسعر التكلفة، يعتبر أحد القطاعات الأهلية الهامة، التي من الواجب المحافظة عليه ومنحه المرونة اللازمة للقيام بدوره وبواجبه، خاصة وأن أعضاءه هم من ذوي الدخل المحدود الباحثين عن السكن الصحي والمناسب بسعر التكلفة.
ولكن بآن معاً يجب مراقبته ومحاسبة الفاسدين فيه، وهذا ما يجب أن يتم التركيز عليه في معرض دراسة التعديلات المقترحة على المرسوم 99 الحالي، مع الأثر الرجعي بعمليات الرقابة والمحاسبة، كي تطال كل من ثبت تورطه ليثري على حساب الأعضاء من ذوي الدخل المحدود، بهذا الشكل أو ذاك، سابقاً ولاحقاً.
الاستحواذ الخاص
يعني وأد الأحلام
مع الأخذ بعين الاعتبار أن البعض ومن خلال مؤشرات الفساد المفضوحة بهذا القطاع الأهلي، ومعاناة الكثيرين من المكتتبين والأعضاء على مر السنين، يسعى إلى وأده بدلاً من تخليصه من آفاته وفاسديه، وذلك كي يستحوذ القطاع الخاص على الحصة الأكبر اقتصادياً من ملف إعادة الإعمار بالمرحلة المقبلة، مشيرين إلى أن المطورين العقاريين الذين تم الترخيص لهم وتم منحهم الكثير من الامتيازات والاستثناءات عبر هيئة التطوير العقاري، هم أولاً وآخراً قطاعات اقتصادية تسعى وتهدف إلى الحصول على أكبر وأعلى معدلات ربح بالنتيجة، وعلى حساب المواطن بنهاية المطاف، ما يعني ضرورة وجود منافسين من القطاع الأهلي المتمثل بالجمعيات السكنية التي لا تهدف إلى الربح (نظرياً)، إضافة لأهمية وجود قطاع عام قوي يدلو بدلوه بهذا المجال.
حيث أشارت الدراسات الحكومية إلى وجود 157 منطقة سكن عشوائي مفتقرة لمقومات السكن الصحي والخدمات، على مستوى الخارطة السورية، كما أن مناطق التطوير العقاري المعتمدة من قبل هيئة التطوير العقاري قد بلغت 23 منطقة، ناهيك عن المناطق والمساكن التي تم تهديمها بفعل العمليات العسكرية خلال الفترة المنصرمة، ما يعني جبهة عمل واسعة على المستوى الاقتصادي العمراني الوطني، تقدر تكلفتها بمئات المليارات من الليرات السورية، والتي يسعى القطاع الخاص عملياً إلى الاستحواذ عليها، عبر قانون هنا وتشريع هناك، وستكون تلك النفقات والتكاليف مصدرها جيوب المواطنين ومآلها جيوب التجار والسماسرة، وبمباركة الدولة والحكومة التي تبتعد يوماً بعد آخر عن دورها الاقتصادي الاجتماعي، تارة تحت شعار التشاركية وتارة تحت شعار العقلنة، وبحال استمرار الوضع على ما هو عليه، فان حلم الشباب المستقبلي بالحصول على مسكن العمر سيتم وأده قبل أن يولد.