جامعة حلب: التعليم في بورصة السلع
ياسمين سراج الدين ياسمين سراج الدين

جامعة حلب: التعليم في بورصة السلع

    كانت جامعة حلب أحد القطاعات التي حافظت على استمرارية شبه تامة في العمل خلال عمر الأزمة رغم المخاطر والتحديات التي واجهتها فظلت صامدة، إلا أن النزيف في كوادرها العلمية أحدث فجوات في البنية الداخلية للنظام التعليمي، ما فتح الباب على مصراعيه للفساد بممارساته التي أفضت إلى تفريغ هذه المؤسسة الأكاديمية من دورها الوظيفي، وهو ما أدى إلى تراجع تصنيفها بين الجامعات العالمية، دون تناسي مقدمات ذلك في دور السياسات الليبرالية، التي أدخلت التعليم في بورصة السلع من خلال الجامعات الخاصة، ومن ثم الخصخصة الجزئية في التعليم الحكومي من خلال «نظام التعليم الموازي».

النظام التعليمي قبل الأزمة كان يعاني من تعاطٍ خشبي جامد مع المواد العلمية، وبعيد كل البعد عن ربط هذه المواد بالواقع أو بسوق العمل، حيث يدخل الطالب وليس لديه أية فكرة عما سيدرسه ويخرج «وليس يتخرج» وهو لا يعلم ما سيفعله بالشهادة التي بحوزته، وهو استكمال للتعاطي الغائي في مراحل ما قبل الجامعة، التي حولت عقول الطلبة إلى آلات ناسخة هدفها تجميع علامات وليس مراكمة معارف.

وهو جمود أتاح للفساد أبواباً مشرعة فتحت شهية كل مستغل، لتبرز ظاهرة الدروس الخصوصية لطلبة الجامعات ضمن صفوف موازية لعمل الكليات، يشرف عليها طلبة ماجستير وأحياناً أساتذة جامعات، كانت في البداية مخصصة للمواد المستعصية، اليوم هي للمواد جميعها، ضمن مكاتب معروفة وتسعيرات تتراوح بين 6000-10000 ل.س حسب عدد الجلسات وطبيعة المواد والقسم، وهنا الحديث عن الكليات الأدبية.

«هموم مستعصية»

جمانة طالبة لغة عربية في سنتها الأخيرة تقول:

 «بسبب ظروف سكني في منطقة الأشرفية والتهديد اليومي لم أستطع ترفيع موادي، وأمام المتغيرات اليومية التي جعلت كل يوم أسوء من سابقه اضطررت للتسجيل فلا مجال للتأجيل وخاصة أن هناك مواداً مستعصية».

هديل وهي طالبة في القسم نفسه تردف: 

«قدمت مادة الدراسات النحوية لسبع دورات متتالية مستخدمة جميع الوصفات، وأمام فرصتي الأخيرة للتقدم اضطررت للتسجيل علّي أتخلص منها ولكن دون نتيجة ما يزيد في الإحباط».

لافا طالبة أدب فرنسي في السنة الثانية تقول: 

«منذ المحاضرة الأولى تدخل وكأنك في السوربون فالمحاضر يتجاهل تاريخك الرائع في المعاناة مع هذه المادة في مرحلة ما قبل الجامعة، والمصيبة حتى وإن كنت من أبوين فرنسيين ستفشل، حيث يتم التعاطي بطريقة منفرة تجعل كل مادة كارثة بحد ذاتها، ما يحملك للتسجيل في تلك المكاتب دون التفكير بالجامعة إلا حين الامتحان».

أمير طالب ماجستير يعلق قائلاً:

 «العديد من الدكاترة ذوو السمعة والوزن المعرفي ترك الجامعة بفعل الأزمة أو التهديد، ما ولد فراغاً كبيراً في الكادر التدريسي، كانت محاولات سده غير مجدية من خلال إعادة هيكلة توزيع المواد، فبعض الأساتذة يقرأ محاضرته ويمشي والبعض الآخر يفرض مراجع محددة، أو يتعاقد مع إحدى المكتبات المحتكرة لمنشورات الكلية لطباعة وبيع مقرراته، وهو ما أتاح لهذه المكاتب هامش استغلال في واقع كثر فيه العاطلون عن العمل من الخريجين فوجدوا في ذلك مصدر رزق»

حال كلية الحقوق ليس ببعيد عن كلية الآداب، وإن بعدت الجغرافية المكانية، مرهف طالب حقوق في السنة الثالثة يقول: «كان خيار الالتحاق بهكذا مكاتب ضرب من الجنون لكنه ظل أفضل من البقاء تحت رحمة مواد مستعصية ومجلدات لا تنتهي وأخرى جامدة، فالدكتور مهمته تبدأ بتعداد مصطلحات تحتاج لفصل بكامله حتى يتم إيجادها وتقرير من 100-200 صفحة ويمشي ناهيك عن 6 مواد الأخرى، إن لم يكن الطالب حاملاً لأربعة مواد أخرى من سنوات سابقة، سعر هذه المواد يتراوح بين 6000-10000 ل.س حسب عدد الجلسات التي تستلزمها كل مادة».

وليد هو الآخر يحكي معاناته 

«سجلت بأحد هذه المكاتب قبل الامتحان بشهر حتى تم تجميع عدد من الطلبة، وتم إعطاء المواد خلال جلستين إلى ستة جلسات بحكم ضيق الوقت أو تضييقه -لابتزاز الطلبة في حاجتهم للتخلص من عبء هذه المواد-لقاء 6000ل.س للمادة الواحدة ما كلفني أعباءً جمة وحملني ديوناً وخاصة أنني طالب تعليم موازي»

«ترحموا على الخصخصة»

الكليات العلمية كان مجال الاستنزاف فيها أكبر ومتنوعاً أكثر، كالكليات الهندسية حيث تصل تكاليف المشاريع الفصلية لـ 15000 ل.س ناهيك عن الأدوات والمستلزمات كل حسب اختصاصه، أما مشاريع التخرج فتصل لـ 150000 وحتى 200000 ل.س على أقل تقدير، تدفع لمكاتب خدمات هندسية واستشارية، لإنجاز مشاريع، ما يرتب أعباءً مادية كبيرة على الطلبة ككلية الهندسة المعمارية، وهي لا تختلف عن أعباء التعليم الخاص هذا إن لم يجدوه أكثر رحمة، وخاصة أن المعدلات النهائية التي تعطى في الجامعات الخاصة تفوق بكثير، المعدلات المعطاة في الكليات الحكومية ما يشكل مفارقة حقيقية وصادمة.

«نزيف قاتل»

أمام هذه الممارسات وغيرها التي أفقدت الثقة بالجامعات الحكومية، كانت من أحد الأسباب لهجرة الشباب في مراحل مبكرة من عمر الأزمة للالتحاق بجامعات خارجية لإكمال تحصيلهم العلمي، وهو استكمال لهجرة العقول لنوضع أمام حقيقة أن البلاد تفقد عقولها وشبابها الذين يمثلون قوتها وحيويتها، وأهم عنصر للبناء عند الحديث عن أي إعادة إعمار في المستقبل أو أي مشروع للتغيير عند الحديث عن اليوم الأول بعد الأزمة.

ما يفرض استحقاقاً مهماً في إعادة الهيكلة في البنية التعليمية والبنية الناظمة، قبل أي تفكير جدي بتطوير المواد العلمية المدرسة فيها بما يتناسب مع حاجات المجتمع والواقع الحالي، الذي فرض ظروفاً جديدة ويطالب بمهام ملحة، وهي رفد سوق العمل بدماء تعوض ما تم استنزافه بالحرب أو بالهجرة، أقله الحفاظ على من تبقى ومنع خسارته، لاستعادة من ذهب في مراحل أخرى، والعمل على استعادة الجامعة لدورها كمنصة معرفية وحاضنة علمية تساهم في رفد الوطن بأيد تتنكب مهمة الإعمار، وسحبها من أيدي طغم الليبرالية الذين كانوا السبب في وصول البلاد إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر.