عندما تصير الظاهرة.. جريمة التسول ليس بعيداً.. عن وزارة الشؤون
لا يمكن لأحد عاقل أن يدافع عن ظاهرة سلبية، وعليه أن يرى فيها قبحاً أخلاقياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن عندما تتفشى الظاهرة ليصير كل شارع يحوي من المتسولين نصف عدد المارة فالأمر تجاوز الظاهرة وصار يوصف بالواقع المثير للذعر.
في شارع 29 أيار نسوة عجائز يفترشن الشارع من أوله إلى آخره وبشكل يومي، ومنهن من يجلسنّ على الرصيف، وأخريات على سور الأبنية، وتستمر لتصل إلى الشارع المؤدي لساحة الشهبندر، عجوزان يمدان أيديهما للمارة هذا عدا الأطفال المنتشرين في الأسواق والمقاهي والشوارع.
حكايات تسمعها عن المرض والتشرد والجوع، والأطفال الذين لا يجد أهاليهم ثمن علبة حليب، هذا لا يعني أنه ليس فيهم النصاب وعضو العصابة والكاذب، ولكن هذا كله ليس امتهاناً، ولكنه أبعد من أن يكون ظاهرة عابرة.
التسول جريمة
الخبر الذي يجب التوقف عنده، هو تعميم وزير العدل الدكتور نجم الأحمد الموجه للقضاة والمحامين العامين على أخذ العقوبات الرادعة بحق مرتكبي جريمة التسول، ويشير التعميم إلى أن (التسول ظاهرة مرضية للمجتمع ترسم صورة سيئة للوطن وتعتبر عثرة في تطوره الحضاري، لذلك على القضاة أن يأخذوا بالحسبان مكافحة الظاهرة، بفرض العقوبات والتشديد في تطبيقها، كما يطلب من النيابة العامة الطعن بجميع الأحكام التي لم تراع فيها الموجبات الموجودة والعمل على مراقبة حسن تنفيذها ).
بشكل إجرائي يجب أن يتخذ الوزير هذا القرار الحاسم لقمع الظاهرة السلبية، ومحاسبة ممارسيها، ولكن كيف يمكن عدم الخلط بين المحتاجين منهم الذي لا يمكن لهم إلا مد اليد، وبين من يمتهنها، وأن لا يذهب المحتاج بجريرة المخادع.
وأن لا تأخذنا العبارات الكبيرة والمنمقة، عن منظر البلد وضرورة المحافظة على صورته الحضارية في ظلم محتاج، وأن نشكل لجاناً معنية بدراسة هذه الظاهرة المستشرية والبحث في أسبابها، ولماذا انتشرت بهذا الحجم، وإيجاد الحلول المناسبة للمواطنين الذين تخلوا عن كرامتهم من أجل الحاجة... أما كونها جريمة، فهي كذلك إن صارت مهنة يرتزق منها البعض، ويرمون بوجوههم إلى الناس من أجل فقط أن لا يعملوا.
مهنة = جريمة
الجانب المحق في تعميم الوزير هو ما يتعلق بأولئك الذين اتخذوها مهنة، وهذا ما يمكن أن يدركه المواطن العادي الذي يسير في الطريق نفسه المؤدي إلى بيته أو عمله، وأمثلة ذلك كثيرة في شوارع العاصمة والريف.
امرأة تتسول بحجة أنها تريد جمع ثمن عملية الديسك، وتبقى محنية الظهر لساعات وترتدي (خفافة) رياضية، وتتواجد في اليوم بثلاث أماكن مختلفة، فهي تتسول بين مناطق البرامكة وجسر فكتوريا وساحة المحافظة بالوتيرة والسرعة بنفسها التي لا يمكن أن يفعلها مريض ديسك شاب.
أخرى منذ أكثر من سنة تجلس في الطريق بين وكالة سانا والمحال التي تقع خلفها، وتتسول أن يساعدها المارة لكي تتمكن من دفع آجار غرفتها، فهي مهجرة مع أطفال صغار كما تدعي، وتجلس في فترة الصباح ومن ثم تمضي... وشابة تمسك صغيراً وتبكي من أجل أن تشتري له علبة حليب.
في المقاهي يدخل الصغار والكبار بيد ممدودة دائماً يدورون على الطاولات بالوصفات الطبية، ويشرحون بعبارات سريعة أوضاعهم كمهجرين ونازحين، ولا يملكون عملاً ولا بيتاً يحوي أجساد ابنائهم.
صغار ونسوة أيضاً يتسولون بأسلوب آخر، حيث لا يطلبون المساعدة ولكنهم يدفعون إليك بوجوه بائسة واعين دامعة، ما لديهم من بضاعة (علب بسكويت أو أقلام ملونة) وهؤلاء أقل قبحاً من غيرهم.
هذه الصور تدل على حصول جريمة التسول، فهؤلاء بعضهم امتهن التسول ووجد في مأساة غيره طريقاً إلى جمع المال، وآخرون يعملون مع آبائهم جهاراً نهاراً بهذه المهنة التي تدر ربحاً، وجزء واضح انتماؤه لعصابة تسول يديرها من بعيد شخص استغل حالات التشرد والضياع التي خلفتها الحرب في الوطن.
وزارة الشؤون.. أذن من طين
الوزارة المعنية بهؤلاء هي وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي التي يجب عليها دراسة الظاهرة القاسية البشعة، وأن تقدم لنا الأسباب التي أدت لانتشار هذه الظاهرة كالوباء، وكذلك العلاج والحل.
الشارع الذي تقع فيه الوزارة قد يكون من أكثر شوارع العاصمة ازدحاماً ويعج بالمتسولين بأنواعهم كافة، فمنطقة (البحصة) وشارع الثورة هي من أكثر المناطق شعبية، ومنها يمكن أن يقوم الباحثون والموظفون والإعلاميون العاملين في الوزارة، ويقبضون رواتبهم بالنظر من نوافذهم ومراقبة هؤلاء، وبهذه البساطة سيكون هناك كلام صالح للقول في الأسباب والنتائج.
ليس المطلوب من الوزارة حديثاً كلاسيكياً عن التسول كظاهرة بشعة تهدد سلام المجتمع مع تحولها إلى جريمة، وليس أرقاماً عن عدد المتسولين ولم المطلوب هو آليات علاج هذه الظاهرة، والجواب على السؤال الأهم: لماذا استفحلت الظاهرة.
في الأسباب
العاصمة التي كانت تسير بهدوء وسكينة، وعدد المتسولين فيها لا يكاد يعد كظاهرة، أضحت تعج بالمهجرين والقادمين من المحافظات كلها، ولا مجال لتشغيل من وفد إليها كلهم لجملة أسباب، وبعضهم لا يملك أية إمكانية للعمل ككبار السن ومن لا معيل لهم، مع قلة فرص العمل، واختلاف العادات والتقاليد ذلك كله ساهم في فرز شريحة تعيش على التسول، وكسالى يرون في الطلب من الآخرين مهنة أهون من بذل الجهد.
المتسول الوقح
متسول يدخل إلى أحد المقاهي ويطلب مساعدته، ولكن جرب أن ترفض ولو بلطف كان تقول له (الله يعطيك) سيجيبك ولماذا لا يعطيني كما يعطيك؟
متسولة أخرى تدور بين الطاولات وتطلب من مال الله، وجرب أيضاً أن لا تلتفت إليها ستصرخ في وجهك: لماذا لا ترد.