بدائل بدائية لما كانت عليه الحال: السوريون يبدعون في رسم صورة لحياة تشبه الحياة

بدائل بدائية لما كانت عليه الحال: السوريون يبدعون في رسم صورة لحياة تشبه الحياة

هل قدر السوري أن يخرج من محنة ليدخل في أخرى؟، وأن عليه دائماً أن يبتكر من أجل أن يستمر في الحياة التي على هيئة حياة كريمة، وأن يبتسم وهو يرتجف من البرد أمام الكاميرا، وأن ينادي بلا هوادة بشعارات الحب والصبر وانتظار الأمل. يبتكر السوريون طرائقهم الخاصة لتعويض خسارات الأزمة العظيمة، ويتحملون كل شظف الحياة التي باتت عبئاً مالياً ونفسياً عليهم.

منذر يركب دراجته للذهاب إلى جامعته بسبب زحمة الشوارع وغلاء وسائط النقل، وليلى تلبس من (البالة) لتبدو بحلة جميلة للذهاب لوظيفتها، ويوسف يشعل الخشب والكرتون في صفيحة معدنية ليتدفأ في صقيع لا يرحم؟.

هرشو وحيداً... واقفاً

منذر الذي ضاق ذرعاً بالركوب من المجتهد إلى المزة للوصول إلى كلية الآداب وعلى باب باص (هرشو) الوحيد الذي لا يشق له غبار، ولا يلتزم بالتعرفة، ويضع 35 ليرة أجرة له من موقف لآخر... منذر خرج عن حرجه اليومي وابتزازه الدائم وقرر شراء دراجة هوائية والذهاب لقضاء كل حاجياته، والوصول لجامعته مع متعة الرياضة ولكنها هذه المرة ليست (تعمشقاً) إجبارياً.

يقول منذر: وفرت الكثير من الوقت والذل والتدافع على نفسي وعلى الآخرين، ولم أعد بحاجة للانتظار على موقف الباص، والوصول متأخراً دوماً إلى أي مكان أريد، فلم يعد بمقدورك أن تحدد موعداً وتلتزم به وتقدر مسافته، الطريق محكوم دائماً بالزحام و(هرشو).

نور الطالبة في كلية الآداب – قسم اللغة العربية وتسكن في ريف دمشق تقول: لكي أصل إلى موعد الامتحان المقرر في التاسعة صباحاً يجب أن أخرج من منزلي في السادسة صباحاً فكان بديلي أن أقضي فترة الامتحان في دمشق لكي أصل على الموعد، وإمكانيات والدي لا تستطيع أن تدفع لي 500 ليرة يومياً فقط للمواصلات.

الكهرباء... ليست وحدها تضيء

لا جدوى من انتظار التيار الكهربائي فساعات التقنين الطويلة باتت مرهقة، وساعتان من الكهرباء بالكاد قادرة على شحن جهاز الموبايل الحديث هذا ما قاله بحزن ممزوج بابتسامة صفراء الشاب مروان العائد لتوه من سوق الكهرباء بدمشق ببطارية شحن وشاحن وأزرار ناعمة تسمى (لدات) بمواصفات متعددة وأسعار متفاوتة، وهو يأمل أن يضاء بيته مساء أسوة بأغلب الجيران الذين اشتروا هذا البديل الصيني.

دارين التي تعودت النوم باكراً تقول: لا أستطيع النوم، كذلك ابنتي الصغيرة فصوت مولدات الكهرباء في كل البناء الذي أسكنه، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً فمن حقهم أن يولدوا الكهرباء ولكن من حقنا أن ننام.

موسى يشكو من ارتفاع فاتورة الكهرباء فقد وصلت إلى 40000 ليرة في دورة واحدة والسبب كما يقول هو اضطراره لاستخدام مدافئ كهربائية في الساعات التي تأتي فيها الكهرباء وذلك لعدم تمكنه من الحصول على المازوت، وبسبب الأثر الخطير لاستخدام الغاز في التدفئة...ويعترف صراحة بأنه وأمثاله يؤدي إلى انقطاعات في شبكة الكهرباء بسبب التحميل الزائد على الشبكة ولكن لا مناص من ذلك.

وقود... التنكة

أمام محلاتهم يضعون صفيحة محروقة ويملؤونها بالأخشاب وبقايا الورق والكرتون القاسي ويرشون عليها قليلاً من المازوت وتبدأ رحلة الدفء المتواضعة البدائية بعد أن توقف المكيف في المحل.

هذا ببساطة ما يفعله أصحاب المحال التجارية الذين باتوا غير قادرين على العمل بطريقتهم السابقة، وتقلصت بضائع واجهات محالهم ورفوفها، ويقول معز: لا بد أن نتأقلم مع الظروف الجديدة التي سببتها الأزمة، فالبيع ليس كما كان وفواتير الكهرباء كبيرة، وتنقطع باستمرار، و(التنكة) لا تشكو من شيء.

صاحب محل آخر يقول: للتنكة فوائد أخرى غير التدفئة فهنا نصنع على نارها الهادئة الشاي الذي يجمع كل الجيران والزبائن.

العودة لمكنسة القش 

مكنسة أمي وجدتي هذا ما تقوله هيام ربة منزل بعد أن أعادتها إلى مكانها في جدار المطبخ معلقة بمسمار صلب، و(المقشة) تستطيع أن تعمل عمل مكنسة الكهرباء وتلم حتى الأشياء الصغيرة جداً.

من الممكن أن أقبل بها هدية لزواجي فسعرها جيد، وممكن أن تكون بلاستيكية أو مصنوعة من القش، ولا تحتاج إلى تيار كهربائي، ولا إلى إصلاحات لا يمكن أنو تقوم بها سوى الشركة الصانعة، وكفالتها مدى الحياة...بهذه البساطة تتعامل ابنة السابعة عشر (نادرة) مع بدلة مكنسة الكهرباء التي كانت ستقدم لها في زفافها.

البحث عن ماء نقي

من ريف دمشق يذهب الحج أبو محمد كل ثلاثة أيام إلى العاصمة ليملأ ثلاثة كالونات ماء صالحة للشرب فلم يعد يثق الرجل بصلاحية مياه مدينته الريفية التي كانت مضرب مثل في نقائها، فالمدينة تعرضت لأكثر من جائحة مرضية مثل التهاب الكبد الوبائي، بالإضافة إلى أمراض جلدية وحكات يعتقد أن الماء الملوث سببها.

الحج أبو محمد يقول: لقد تعبت من شراء المياه المعدنية التي ارتفع سعرها أربعة أضعاف وصارت تحتاج إلى دخل إضافي.

وبسبب سوء المواسم المطرية في السنوات السابقة شهدت مناطق في ريف دمشق الغربي وخصوصاً قطنا والبلدات التابعة لها شحاً في المياه، والماء الذي يتم ضخه عبر الشبكات يصل ملوثاً أو موحلاً مما جعل المواطنين يلجؤون إما لشراء المياه من الباعة المتجولين أو الاستعانة بالآبار المحلية القديمة التي عوضتهم عن شراء المياه.

بدائل قديمة جديدة

كلما ضاقت أحوال السوريين المالية زادوا من بحثهم عن بدائل قديمة ولكنها تفي بالغرض فازدهرت أسواق البالة التي ربما يرى البعض أنها ليست بأرحم من أسواق اللباس والأحذية التي وصلت لأرقام فلكية، ولكن من الممكن الحصول على بنطال بـ 1000 ليرة وكنزة أو قميص بـ 500 ليرة.

مدفأة الحطب صارت في أغلب بيوت الريف، وهذا ما يؤمنه الاعتداء على الثروة الحرجية والبساتين، وتجار الخشب، ولكن الجواب الذي لا يدع لك مجالاً للحديث عن الأضرار التي تلحق بالبيئة هي أن هؤلاء يصرخون بصوت عال: نريد أن نحمي أبناءنا من الموت برداً... أو هاتوا بدائلكم؟.