من الذاكرة: (الحليب حدّ!)
عادت بي الذاكرة ليلة أمس إلى العام الدراسي 47-1948 أيام كنت في الصف الثالث الابتدائي بمدرسة الصاحبة الواقعة بين حارة أبي جرش وجامع أبي النور في حارة الأكراد (ركن الدين) حين كانت أسرتي تقيم في مقبرة صغيرة مشهورة تضم قرابة عشرين قبراً أقدمها يعود لأجدادنا في العهد الأيوبي، وأحدثها قبر عمي أبو طه، وكانت الغرفة التي أنام بها مع إخوتي قرب باب «البيت».
سمعت طرقاً على الباب وعندما فتحته فوجئت بمنظر ابن عمي طه أبو إسماعيل الذي يكبرني بعشر سنوات والمتطوع في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، والضمادات الطبية البيضاء تلف رأسه وقسماً من وجهه ويده، وطلب مني أن أهدأ ولا أحدث ضجة، ودخل متوجهاً إلى غرفة سكنه في الدار، وعدت لأتابع النوم فلم أستطع ذلك إلا بصعوبة بالغة.
وفي صباح اليوم التالي، «انتشر» الخبر واجتمعت الأسرة بكاملها حول فراش ابن العم لتستوضح حقيقة الأمر، فلقد تعرضت سيارة الجيب العسكرية التي يسوقها والمخصصة للضابط الوطني المعروف الرئيس (النقيب) مأمون البيطار، تعرضت للغم صهيوني على أرض فلسطين حيث تجري المعارك، ليستشهد الضابط ويصاب ابن العم بجراح بالغة أمضى أياماً عشرة ليتجاوز مرحلة الخطر و«يبدأ» بالشفاء، والأهل لا يعرفون شيئاً عن سبب غيابه. وعندما تعافى وعاد إلى عمله لبى دعوة من أصدقائه في معرة صيدنايا احتفاء بنجاته، وقد اصطحبني معه بسيارة جيب عسكرية مكشوفة وبرفقة صاحبيه صلاح الزركي وصلاح تاجا (أحد أعمام الفنان الكبير خالد تاجا)، وفي المعرة أمضينا سهرة جميلة حيث التم الجميع جلوساً على الأرض حول مائدة عامرة بما لذ وطاب من الطعام والشراب، وبعد منتصف الليل عدنا إلى بيتنا لأغط في نوم عميق، لكنه لم يستمر إلا لساعات قليلة حيث أيقظنا الوالد كالعادة لنؤدي صلاة الصبح خلفه وبعدها نشرب قهوة الصباح، وقد سألني الوالد: إلى أين ذهبت مع ابن عمك؟ فأخبرته بذهابنا إلى ضيعة أصدقاء ابن عمي في صيدنايا، وقلت له (ببراءة الأطفال) غنوا كثيراً وشربوا حليباً بارداً وحادّ الطعم وكمان شاي بارد. ولم أكن أدري أن هذا الخبر سيحث «ثورة» في البيت «يقودها» والدي المحافظ كان المستهدف فيها ابن العم الغالي الذي قرر ألا يصطحبني معه بعد هذا اليوم أبداً... لكنه عاد واصطحبني معه مراراً وأنا ممتن له كل الامتنان.