من الذاكرة : يتفتح في الوطن الورد
جرياً على عادة «أدمنت» عليها, إلى جانب اللقاءات المباشرة, بتخصيص أوقات محددة للجلوس أمام جهاز الهاتف للاتصال بمن «يصعب» علي لقاؤهم، وآخر هذه المكالمات حوار هاتفي مع أحد المعارف الأعزاء والذي أبدى رأيه بصراحة في الزاوية التي أكتبها, تضمن قوله: «إن كثيراً مما تكتبه هو أمور شخصية, تخصك أنت, فهي ذكريات من ذاكرتك».
فسألته «وهل هناك حدود معترف بها تفصل ما بين الشخصي والعام؟ وأحسب أن ذلك أمر مستحيل, وباستثناء الشواذ فإن لا شيء شخصياً إلا وله لدى الآخرين مثيل أو مشابه وإن تفاوتت النسبة قليلاً أو كثيراً».
وللدلالة على ما أقول. فقد أغراني هذا الحوار أن أدعو القراء الكرام ليستعيدوا تذكر أسماء أصدقائهم في عهد الطفولة وزمن الشباب, وطبيعي أن تسعد قلوبهم، وهم يسترجعون صفحات نابضة بالحياة من سجل زمن يتباعد عاماً بعد عام, وفي أسماعهم سترن كلمات أغنية المبدعة فيروز «زوروني كل سنة مرة» وصدى أمثال شعبية رائعة «يلي ما يحس بالناس مو من الناس... والجنة بلا ناس ما بتنداس», واسمحوا لي الآن أن أستعيد أسماء أصدقاء لي خلال عام دراسي أوغل في البعد أمضيته في دير الزور, وهم المعلمون عبد الجبار ناصيف الفنان التشكيلي الراحل، ووليد كردوش لاعب كرة في نادي غازي، وعلي إدريس وعبد الله حسن ووليد الرفاعي, وبدر الدين أبو إياد ووليد كضيب ونعيم الشايبة وعبد الله ياسين وعلي صالح مشعان, وسأتوسع بالحديث عن المعلم والصديق والأخ علي مشعان, فقد كان أول ديري أزوره في بيته وأنام عنده ولتنشأ بيننا صداقة حميمة, وباختصار هو شاب شهم يمتاز بحيوية وأريحية واضحة, ويملأ قلبه وفكره حب الوطن واحترام الناس والعمل والإخلاص في التدريس وتربية الطلاب والحدب عليهم.
وتمر السنون وألتقيه وجهاً لوجه بعد سبعة وأربعين عاماً فإذا أنا أمام رجل وقور بزيه العربي (الكوفية والعباءة) وقد أعيا جسده المرض, فجاء إلى دمشق للعلاج ورغم ذلك يقف متماسكاً مجسداً قول الشاعر:
هو العمر شموخ حر
تداعى تحت نعليه الرياء
وسمعت منه تفاصيل المعاناة التي ألمت بهم في دير الزور, منذ بدء الحراك الشعبي حتى يومنا الراهن ودوره كوجه شعبي معروف ومحترم, وتعرضه للسجن مع عدد من أفراد أسرته جراء موقفهم الوطني إلى جانب أبناء الشعب في حراكهم المشروع في وجه الفساد والفاسدين والنهب والناهبين والظلم والظالمين, فهو كالملايين من الوطنيين:
يهوى الحياة كريمة لا قيد, لا
إرهاب, لا استخفاف بالإنسانِ
كل بيت في هذا الوطن عبَّ الألم والمرارة. والأستاذ علي أبٌ لأربعة شهداء سقت دماؤهم أرض الدير وأولهم الرفيق الشاب زهير عضو حزب الإرادة الشعبية.. مثال للإنسان الصادق الجريء المتواضع. لقد قرأت في عينيه حاله:
إني من حيث الجسد معذب بائس
أما إهاب النفس فثابت صامدُ.
تحية تقدير وإجلال لكل من أسهم ويسهم في إحياء الأمل في أن الورد سيتفتح من جديد على أرض الوطن.