من الذاكرة : للحكاية شكلان

من الذاكرة : للحكاية شكلان

تغنى معارف الإنسان بما يستقرئه من تجاربه، وما يسمعه أو يقرؤه من تجارب الآخرين وأخبارهم، ويتداول الناس المعارف بأحد أسلوبين: الأول يخاطب العقل والإدراك بالمنطق والوقائع، والثاني يثير المشاعر والخواطر والخيال.

وبذاكرة كل منا نماذج منهما، فبالأسلوب الأول تَزودنا بالتثقيف العام والذاتي فكرياً وسياسياً في الندوات الحزبية ولاسيما في اجتماعات الفرقة بحضور أحد أعضاء اللجنة الفرعية، يقود الاجتماع ويضع جدول عمله وأول نقطة فيه «الوضع السياسي» المتضمن الأحداث السياسية ونضال ونشاط الحزب وخطه السياسي بشكل دقيق وواضح، ثم يفسح المجال أمام المناقشة والملاحظات، ويجيب عن الأسئلة والاستفسارات. وسأركز على واقعتين تصحان شاهداً على الأسلوبين:
الأولى ما تثقفنا به من معلومات عن ثورة أكتوبر المجيدة، تشرح واقع كادحي روسيا من عمال وفلاحين وجنود، والنضال الذي خاضه الشيوعيون الروس، ومن ثم ارهاصات الثورة وأحداثها وانتصارها بالقضاء على القيصرية والاستبداد والقهر. كل ذلك بالأسلوب الأول الذي سمعناه من معظم أعضاء اللجنة الفرعية، إلا واحداً منهم وهو الرفيق أبو جمعة الذي انفرد بالأسلوب الثاني لحكاية الأحداث، الشكل الشعبي، ومما بقي في ذاكرتي من روايته التي اعتمدها«محافظاً على جوهر الحدث، ومحلقاً في الوقت نفسه في إثارة الخيال والعاطفة والحماسة»: «أتعرفون يا رفاق كيف قاد لينين الثورة؟ لقد جمع الثوار من الكادحين وقال لهم.. أيها الرجال اليوم يومكم فكونوا كما أعرفكم أبطالاً، سئهجم على قصر القيصر، فهل أنتم مستعدون، فأجابوه بصوت واحد.. لعيونك نحن مستعدون فأعطاهم الإشارة فهجموا، ورفعوا العلم الأحمر وهم ينشدون الأناشيد الحماسية وانتهى الحكم القيصري».
والواقعة الثانية جرت أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، عقب تأميم قناة السويس، والموقف السوري إلى جانب مصر، وتشكيل المقاومة الشعبية وتفجير أنابيب النفط المارة من العراق عبر سورية إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط والواقعة هي زيارة رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي إلى موسكو واجتماعه بالقادة السوفييت، وصدور الانذار السوفيتي المشهور الموجه إلى الدول المعتدية (انكلترا وفرنسا واسرائيل)، واختم الزاوية بما قاله الرفيق أبو جمعة عن هذه الزيارة:
«عندما جلس الرئيس القوتلي مع القادة السوفييت إلى مائدة الطعام لم يمد يده إلى الأكل، فقالوا له لماذا لا تأكل، قال كيف لي أن آكل وشعب مصر يتعرض للقتل بطائرات ومدافع الأعداء. عندها استأذن القادة الرئيس ودخلوا إلى الغرفة المجاورة ودرسوا الأمر ثم خرجوا بعد دقائق معدودة، ليقولوا له: ابشرْ لن يكون إلا ما يرضيكم ويسركم.. فنحن أصدرنا إنذاراً مرعباً للدول المعتدية، وسنجبرهم على وقف عدوانهم. وهون طابت نفس الرئيس ومد يده إلى الطعام بعد أن شكرهم من كل قلبه!».