مطبات: استثمارات الحكمة
يمرض المواطن لأنه كائن ضعيف، ولأسباب أخرى أيضاً إنسانية من صنع البشر، وليس بسبب الطبيعة البشرية التي يصيبها التعب والإرهاق والحوادث.
هنا نمرض لأننا لا نرحم أنفسنا، وأيضاً لا نرحم الجسد الذي ينوء بأعباء الركض خلف لقمة العيش، وبعض الكرامة.
هنا نمرض لأن لا أحد يهتم إن استدنا من (البقالية)، واضطرنا للدوران حول حوارينا هرباً من مطالبات أصحاب الديون، فثمن الدواء والخضار، بالإضافة إلى (شيبس) الأولاد، والمحارم النسائية والعلكة.. بالدَين.
نمرض لأننا لم نعد نتحمل الصدمات التي تفجر نتائجها حولنا القرارات التي تستثنينا من برامج أعدت لنا، ومصائر كتب علينا أن نجلها ونسلم بها.. ونقول آمين آمين، مصائرنا المكتوبة بخطوط قاتمة بأصابع وكفوف أنعم كما يقول جدي من يد العروس في ليلة (حنتها)، مصائر سببها التاجر الشاطر، والمحتكر الذي لا يحاسبه أحد، والمتخم المصاب بداء السمنة وارتفاع الكوليسترول والشحوم.
نمرض من تفكيرنا بالقادمات من الفواتير، والضرائب التي تدفع معها، ونحلم حتى الرجفان البطيني القاتل بدعم الوقود في شتاء تأخر ولكنه قد يأتي عاصفاً، ويحكم الغلاء علينا بالحمى، وفقدان السلع بالهلع، وزيادة الراتب بالفرح الغامر المفاجئ، والخصخصة بالشلل العقلي من طريقة تنفيذها ومن منفذيها، والتقاعد المبكر يصيبنا بالخوف من الموت لأن المتقاعد بالضرورة لا يعيش أكثر من سنة ليهنأ بمكافأة نهاية خدمة الدولة ورب العمل.
ولكن بعد كل هذا الإسهاب في أمراضنا النفسية والعضوية، إذا مرضنا إلى أين نذهب؟
من تحميه وظيفته ربما يعتبر النقاهة استراحة من روتين الدوام، وصباحات مديره الغائمة، وأما الأغلبية التي لا يحميها سوى قدرتها على العلاج فأين تذهب؟
المشافي الحكومية - وحتى لا نغالي- ما زالت سند الشريحة العريضة بالرغم من مشكلاتها، وهروبها إلى تخصيص جزء منها لمساعدتها شأنها مثل الشأن العام الذي يسمى دلالاً (قطاعاً)، وبالرغم من ثمن الدخول خارج أوقات زيارة المرضى بـ100ليرة للمستخدم الممسك بباب الرزق والرشوة، وبالرغم من الازدحام الكبير الذي يملأ المرارات بالمرضى ومرافقيهم، والدور الذي يشترى من عيادة الطبيب، و(تبويس) اللحى والأقدام، والتطاول على أدوية الموتى بثياب مرضى السرطان، وبيع الدواء، والتقارير الطبية، والنقاهات لموظفي القطاع العام وطالبي الوظائف، وبالرغم من كل المرض المستشري في جسد القطاع العام الصحي، والدعوات الكبيرة لاستثماره، والخطابات العريضة في الدفاع عنه..لكنه أهون ملاذاً لو وقعت أيها المواطن المريض على سرير مشفى خاص.
تكاثرت المشافي الخاصة حتى وصلت إلى القرى النائية التي كانت تحلم بمستوصف، وتلاحم الشركاء الباحثون عن استثمار من طبيب إلى تاجر ومالك عقار، وحملت اليافطات الفخمة أسماء التعافي والحكمة والشفاء، تجار المخالفات شركاء فيها، ومتعهدو مشاريع البنية التحتية في البلديات، والعائدون من قبرص واليونان والخليج، ورؤساء بلديات فاسدون، ورؤساء مكاتب فنية يسهلون رخص البناء ومخالفاتها، أما موظفوها عدا الكادر الطبي فمن أقارب الشركاء وأبنائهم..وأبناء وأقارب الساكتين عنهم.
في التعميم ظلم كبير فهناك استثناءات قليلة، أما معظم المشافي فلا تعدو أن تكون مشاريع للربح من السنة الأولى، أسعار تتجاوز الخيال، وأمراض عابرة تؤدي إلى الموت، وإبرة دون اختبار تحسس تقود إلى مأتم، أما من كانت مشيئة القدر أن تجرى له عملية إسعافية، أو تصيبه جلطة لا تترك له خيار التفاوض ربما يخرج من المشفى بلا بيت أو أصدقاء أو أهل.
تعترف وزارة الصحة [أن هناك فلتاناً في الأسعار، وأن هذا الفلتان يتجاوز المشافي إلى العيادات الخاصة التي يرى أطباؤها أن اختصاصاتهم نادرة، ويجب على المريض أن يدفع لهم ثمن دراستهم الجامعية العليا، والبورد الأمريكي، وزمالة الكلية البريطانية، وأخوة مشافي العيون الموسكوية.
أبو محمد العائد بجثة ابنه الصغير بعد كسر في يده، وبديون تجبر كسور قريته بعد زلزال مفترض..يتذكر الحلاق و(المجبر العربي) بالبيض وخيوط الصوف.