من الذاكرة : لن تذهب سدى

من الذاكرة : لن تذهب سدى

يحتفل شعبنا بذكرى السابع عشر من نيسان 1946 بوصفه عيد أعيادنا الوطنية. حقاً لم  تذهب سدىً نضالات شعبنا ضد الاحتلال الفرنسي، فقد تكللت بالنصر المؤزر. ومن يقرأ التاريخ جيداً يدرك هذه الحقيقة الناصعة، فما من شعب ناضل ضد الظلم والاضطهاد الذي لحق به إلا وانتصر، طال الزمن أم قصر

واليوم ونحن نحتفل بذكرى الجلاء المجيد، تعود بي الذاكرة إلى أشعار وأقوال عبقت بأريج حرية عطرت أرض وسماء الوطن ومنها قول أحمد شوقي:

وللحريةِ الحمراءِ بابٌ      بكلِّ يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ

وقول الرفيق خالد بكداش «ليس الجلاء منحة من أحد»، وقد عدت إلى خطابه الذي ألقاه في الأول من أيار عام 1946 واقتطفت منه الآتي: «لم يتحقق الجلاء لسورية منحة من أحد، هذا شيء ينبغي أن يذكره كل سوري، وأن يعرفه كل عربي. أجل لم يخرج أي جيش أجنبي من سورية لا الإنكليزي ولا الفرنسي بملء رضاه واختياره. كلا لم يكن الجلاء منحةً من أحد، لقد نالته سورية بفضل دماء شهدائها الأبرار. فكلما نظرنا إلى شوارع دمشق وهي خالية من غطرسة الجنود الأجانب وكلما أجلنا الطرف في الغوطة والجبل العربي وجميع أنحاء سورية فلم تقع أعيننا على معسكر أو ثكنة يرتفع عليها علم أجنبي انحنينا باحترام وإجلال ووفاء لذكرى الضحايا والشهداء أولئك الأبطال الذين صبغوا هذه الشوارع، وسقوا هذه الربوع بدمائهم فأنبتت شوكاً لم تستطع أن تعيش وأن تعمر عليه الطفيليات الأجنبية لا القديمة ولا الحديثة.

لقد تحقق الجلاء بفضل اتحاد الشعب السوري ونضاله وثباته ووفائه لذكرى شهدائه، وبفضل تضامن الشعوب العربية الشقيقة، وتأييد الرأي العام الشعبي العالمي لسورية ولبنان في نضالهما الوطني، بفضل تأييد قوى الحرية في الدنيا وفي طليعتها حصن الحرية الكبير اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية.

إن عاطفتنا الوطنية تفعم قلبنا حباً لأرض بلادنا، ولكنها تفعم قلبنا بحب أعظم نحو سكان هذه الأرض، نحو أهلنا وإخواننا، نحو هذا الشعب الأبيّ الكادح الذين لا نريد أن نرى أجنبياً يتحكم بهم ويتغطرس عليهم ويسرق ثمرة أتعابهم، ولانريد أن نرى بينهم ذليلاً أو جائعاً أو عارياً أو جاهلاً».

ومن الذاكرة أستعيد أيضاً حكاية «جسر تورا» (أحد فروع نهر بردى) الذي أقيم لعبور الناس والعربات من وإلى ضواحي دمشق الشمالية، وقد اتخذه الثوار مركز استحكامٍ ليَحولوا دون حركة جنود الاحتلال في هذه المنطقة وراحوا من هذا الموقع يخوضون المعارك البطولية مكبدين العدو خسائر كبيرة، فيعود من سَلِمَ منهم ليبلغ النتيجة لقائده الذي ظن الجسر ضخماً فوق نهر عظيم، فانطلق مع مجموعة من جنوده ليرى بأم العين هذا الجسر الرهيب، وكم كانت المفاجأة مذهلة حين رأى جسراً لايتعدى عرضه المترين وطوله الثلاثة أمتار فقال بمرارة: «لا يمكن أن ننتصر على شعب هذه بطولته... إنها معركة خاسرة» .

تحية اعتزاز وإجلال للشهداء الميامين الذين سقطوا وهم يقارعون المستعمرين الفرنسيين والإنكليز، وستبقى تضحياتهم في معاركهم المشرفة من بطاح ميسلون إلى كل شبر من ثرى سورية البطلة... ستبقى خالدةً في قلوب وذاكرة شعبنا العظيم ما بقي على هذه الأرض الحبيبة فؤاد ينبض.