غزة لا تحتاج دموع المتباكين بل نخوة الرجال
في خضم العدوان الصهيوني الهمجي الجاري على غزة، تتعالى أصوات فلسطينية وعربية تتباكى على الضحايا والدمار الذي يلحق بأهلنا في غزة. ويتظاهر هؤلاء بأنهم يتألمون لما يحلّ بغزة، ويدعون إلى وقف القتال لكي لا يرتفع عدد القتلى ويزداد الدمار هناك. ويحرص المتحدثون منهم على الإشارة الى الرئيس وجهده المتواصل من أجل تحقيق ذلك.
هكذا تتلخص القضية والعدوان الصهيوني عند هؤلاء؛ وكأنهم لا يعرفون أنّ ما يجري هو عدوان غاشم يشنّه الكيان الصهيوني الغاصب الذي هو أصل البلاء؛ العدوان من طبعه، والقتل ثم القتل في مقدمة أهدافه للتخلص من الشعب الفلسطيني. كذلك لا يرى هؤلاء في غزة إلّا أناسًا مظلومين ومغلوب على أمرهم وبحاجة إلى المساعدة؛ وكأن هؤلاء المتباكين لا يعرفون أنّ في غزة شعبًا أبيًا مقدامًا، وفيها فصائل مقاومة وكتائب مقاتلة. في غزة، لمن لا يريد أن يرى، أبطال يتصدّون ببسالة لهذا العدوان وآلة حربه الجهنمية، لا تخيفهم وحشيته، ولا ترهبهم المجازر والتدمير الذي يوجهه إل كل من هو موجود وما هو موجود في غزة؛ فهم قد نذروا أنفسهم دفاعًا عن شعبنا وكرامته وحريته، ومن أجل استرداد وطنه وحقوقه.
لقد تُركت غزة وحيدة على مدى سنين، وتعرضّت لأقسى الظروف المادية والمعنوية. حاصرها الصهاينة ومعهم عرب، بقصد تجويع أهلها وتركيعهم، ومُنع وصول أي شيء إليها يمكن أن يفيد في مقاومة العدو؛ شنّ عليها الصهاينة حربًا بعد حرب وألحقوا بها في كل مرة قتلًا ودمارًا أشد مما قبلها. وُجِّهت الى المقاومة تهمٌ باطلة ليُبعدوا عنها جمهورها الفلسطيني والعربي؛ هاجموها بالكلمة وتهجّموا عليها بأشنع الألفاظ، وطعنوا في شرف سلاحها، ثم حاولوا إغراء جمهورها في غزة بإظهار "نِعَم" التسوّل من الغرب الصهيوني. حاولوا إفراغ قاموس الوطنية الفلسطينية من أقدس مفرداتها وروّجوا لمصطلحات ملتبسة، مثل: المفاوضة حياة (أي كلام فقط)؛ والسلام رسالة (أي الاستسلام والهدوء) بديلاً عن الدفاع عن الوطن وأهله؛ والتسامح فضيلة (أي التنازل عن الحقوق والثوابت) بدلاً من التمسك بها والقتال في سبيلها، وغير ذلك من مصطلحات الذل والخيبة.
يتباكى هؤلاء وأولئك، فلسطينيون وعرب، اليوم على غزة. ويحار المرء أمام قدرتهم على التبجح بما يتفوهون به من عبارات التضامن والتكاتف مع أهلنا في غزة. فهل هو غباء منهم فيظنوا أنّ شعبنا يجهل حقيقتهم ويمكن أن ينطلي عليه تظاهرهم وتقلّبهم؟ أم هي عقلية "المتحوّلين" التي أنتجتها ثقافة السلام ونبذ العنف، ويخشون أن يمتد لهيب المقاومة الى خارج غزة، فأصبح وقف القتال هو الملاذ؟
رهيبة هي صور العدوان الصهيوني؛ فلا هدف له سوى القتل، ولذلك يوجِّه حمم طائراته ودباباته الى البيوت على من فيها، والى المدارس والمساجد التي يلجأ إليها الناس للاحتماء من قذائف الموت. يرفع العاملون في مجال حقوق الانسان الصوت بأنّ المستهدَفين ليسوا مقاتلين، ويبكي هؤلاء صدقًا على منظر الأعداد الكبيرة من الأطفال القتلى (أكثر من 300 طفل حتى الأول من آب/أغسطس)؛ ولعلّ هؤلاء لا يعرفون الغِلّ الدفين في قلوب الصهاينة تجاه كل ما هو فلسطيني. ويتساءل بعض الناقمين على ما يجري إن كانت جامعة الدول العربية ما زالت موجودة؛ يا سبحان الله! كانت الجامعة أيام حرب الناتو على ليبيا، والغزو الجاهلي لسورية، في اجتماع دائم لتبرير العدوان والدعوة الى المزيد، فهل تصمت اليوم خجلاً، أم علامةَ رضا على العدوان، أم استجابةً لتعليمات أصحاب القرار الذين لا تظهر رجولتهم إلاّ على أبناء جلدتهم؟
لم يعد هدف العدوان خافيًا؛ إنه حلقة أشدّ من سابقاتها في القتل والتدمير من أجل القضاء على الوجود الفلسطيني الحيّ ليكتمل طمس وجود الشعب الفلسطيني، ويتحقق هدف الصهيونية وأملها المستحيل. وحركة المقاومة تعرف ذلك وتعي أنّ العدوان عليها حتمي. ولذلك كانت عينها على العدو، ولم تترك ساعة من وقت إلاّ استغلتها في الاستعداد لملاقاته. وها هي تفاجئه بما أعدّت له وبما لديها من قدرات قتالية تلحق به الخسائر وتوقع الرعب بجنوده وبمن وراءهم، وتصنع مع شعبها كله في غزة، شيبه وشبابه، معجزة الصمود وتحمّل الآلام والتضحيات في سبيل الحرية والكرامة.
وتدرك المقاومة في الوقت نفسه مدى الاحتياجات الانسانية لأهلنا في غزة بسبب العدوان، وأنّ أعداءها سيحاولون النفاذ من هذا الباب للوصول الى هدفهم في نزع سلاح المقاومة. هم يتباكون بدموع "بيضاء" خالية من المشاعر ولا يمكن أن تحجب حقيقتهم؛ فالذي كان بالأمس يجاهر بأنّ المقاومة أكذوبة لا يأتي منها إلاّ الخراب، لا يمكن أن يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى نصير لهذه المقاومة نفسها.
إنّ ما تحتاجه غزة اليوم ليس دموعَ المتباكين وإنما نخوةَ الرجال الذين يمجّدون المقاومة ويقدّمون الدعم الصادق والمساعدة المنزَّهة عن الغرض. ولقد تهيأت لشعبنا من تجربته النضالية الطويلة، ومن تجارب انسانية ذات صلة، دروس وعبر ماثلة في وجدانه، وهادية للمقاومين والمتمسِّكين بالحقوق والثوابت الوطنية، ومنها: المتسوّلون ليس لهم أن يقرِّروا بل أن يطيعوا؛ الشرفاء لا يستجدون ولا يركعون؛ المقاومون يقضون شهداء والخونة يموتون سحقًا بأحذية العدو بعد أن يستنفد أغراضه منهم.
وقد صدع صوت المقاومة من وسط الأهوال بأن المقاومة صامدة والقرار بيدها وحدها. فتحيةً للمقاومة ورجالها الذين يسجلون بطولات أسطورية دفاعًا عن الحق والكرامة الوطنية، وتحية لأهلنا في غزة الذين يكتبون بصمودهم وتضحياتهم صفحات مجيدة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ولتبقَ غزة مرفوعة الهامة، والسلاح مشهرًا حتى التحرير والعودة.