الأوليغارشيّة: أميركيّة الأصل كفطيرة التفاح!
ريفييرا سان ريفييرا سان

الأوليغارشيّة: أميركيّة الأصل كفطيرة التفاح!

الأوليغارشيّة أميركيّة الأصل كفطيرة التفاح، تبدو لذيذة من الخارج ولكن مع كل قضمة تموت الديمقراطيّة! يقول جيفري وينتر مؤلف كتاب «الأوليغارشيّة»، وبروفيسور في العلوم السياسية، في جامعة «نورثويسترن»: «عندما نجعل استخدام الثروة في السياسة صعباً، فإننا نرفع برنامج الديمقراطيّة، ونقلل من قوّة الأوليغارشيّة».

الأوليغارشيّة الأمريكيّة – النخب الثريّة التي تستخدم المال لشراء السلطة – موجودة منذ زمن طويل، لدرجة أنها أصبحت تقليديّة. امتطت ظهر ثورة شعبيّة، أعطت نفسها مساحات شاسعة من الأراضي، ثم قامت بانقلاب في عام 1787 يطلق عليه عموماً اسم دستور الولايات المتحدة الأمريكيّة.

في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، كان يثار حراك ثوري في المستعمرات، لم تكن حرباً بل كانت حراك شعب نحو الديمقراطيّة. في الاجتماعات العامة والبلديات، كان يتجمع مواطنون عاديون ليناقشوا كيفيّة حكم نفسهم بنفسهم. كتبت جويس أبيلبي في مجلة التاريخ الأميركي: «كان الزوّار الأجانب في القرن الثامن عشر يعلقِّون، وبدون تردد، على حيوية النقاشات العامة وعلى الثقة السياسيّة التي يمتلكها أناس عاديون».

رغم أن هؤلاء الناس العاديين لم يشملوا في وقتها أناساً من أصل إفريقي، نساءاً أو سكاناً أصليين، إلا أن هذه المجالس لم تكن منقسمة طبقيّا، كما كانت الحكومات الأرستوقراطيّة في أوروبا. أدى ذلك إلى ظهور ثقافة لم تكن معروفة تماماً في يومها، وهي أن العامة يتشاركون المسؤوليّة بحكم نفسهم.

مع ذلك، وبعد الحرب الأهليّة، فإن النظريّة الثوريّة في الديمقراطيّة ولّدت ثورة مضادّة. وجدت أوليغارشيّة تلك الحقبة صعوبةً في إدارة أعمالها بين الولايات المستقلة، كل منها كانت تصوغ قوانينها لتنظيم التجارة والضرائب والرسوم. استمرت صياغة أول دستور للولايات المتحدة الأمريكيّة عشرة سنوات (مواد الاتحاد الكونفدرالي)، بدءاً من عام 1778، قبل أن تجد الأوليغارشيّة طريقها للالتفاف عليه. وحتى وقتها، كان لا بد لهم من أن يلجأوا إلى وسائل استثنائيّة.

في شباط عام 1787، اقترح جورج واشنطن (أغنى رجال الولايات المتحدة الأميركيّة) عقد مؤتمر في أيار في فيلاديلفيا، زعم أنه لمراجعة مواد الاتحاد الكونفدرالي. صُدم المندوبون فور وصولهم إلى المؤتمر باكتشافهم أن كلا من واشنطن، ماديسون وهاملتون أرادوا أن يتخلصوا من مواد الاتحاد الكونفدارالي القديمة، تقدم هاميلتون باقتراح دستور جديد، نيابة عن المذكورين، تضمن حكومة فيدراليّة صاحبة سلطة مطلقة لتسيطر على حكومات الولايات، تضمن رئيساً مدى الحياة، مجلس شيوخ معيّن مدى الحياة، مجمع منتخب ينتخب الرئيس، ومحكمة عليا معيّنة مدى الحياة لديها السلطة على محاكم الولايات.

 

الدستور «الديمقراطي» يرفضه 23 مندوب

«لا شيء يستطيع أن يكبح التهوّر في الديمقراطيّة، سوى هيئة دائمة»، هذا اقتباس من حديث أليكساندر هاميلتون، كما ورد في ملاحظات حول المشاورات السريّة في المؤتمر الفدرالي عام 1787، بقلم روبرت ياتس».

العديد من المندوبين غادروا احتجاجاً على ذلك. من بين 62 مندوب معيّن وقع 39 فقط على الدستور الجديد. مؤتمر فيلادلفيا، الذي يذاع عنه بشكل واسع اليوم على أنه مسقط رأس الديمقراطيّة، لم يكن سوى انقلاباً أوليغارشيّاً. حق انتخاب المسؤولين أصبح امتيازاً صغيراً لأنصار الديمقراطيّة، تم تعليق وثيقة حقوق بناءً على إصرار الجموع الغاضبة خلال عمليّة التصديق على الدستور الجديد، لكن تم تقليصها إلى عشرة حقوق من أصل العشرات التي اقتُرحت في البداية.

يمكن اليوم للسياح أن يقصدوا ردهة الحريّة. لكن في عام 1787، عُقد المؤتمر بسريّة شديدة، كانت الأبواب مغلقة، وتم تعتيم الشبابيك وتمت إحاطة المبنى بالحرس، يرد في ملاحظات حول المشاورات السريّة في المؤتمر الفدرالي عام 1787 أن القوانين نصت على «منع الطباعة أو النشر بأية طريقة أو النقل الشفهي للمشاورات داخل المبنى»، رفض جيمس ماديسون، أحد المؤرشفين الأساسيين في المؤتمر، نشر ملاحظاته إلى أن تم دفن جميع المؤتمرين في القبر.

لو علمت الجموع بما كان يحاك سرّاً في فيلاديلفيا، لتبعها مظاهرات عارمة ومعارك. في عام 1787، ظنّ مواطنوا الولايات المستقلة أن الولايات المتحدة الأمريكيّة أشبه بتحالف وديّ بيد الولايات، شبيه بتحالف الأمم المتحدة. إلا أنه، وبعد الدستور الجديد، أصبحت الحكومة الفيدراليّة للولايات المتحدة الأميركيّة هيكلاً جديداً قانونياً تمارس سلطة مطلقة على حكومات الولايات.

يومها لم يسعد المواطنون لاكتشاف ذلك. انتشرت مقاومة للدستور الجديد بشكل واسع. كتب جورج واشنطن في عام 1787: «تشبه اضطرابات من هذا النوع كرة الثلج، تزداد قوتها كلما تدحرجت إذا لم تواجه شيئاً في طريقها ليقسمها ويفتتها». أطلق شركائه ماديسون وهاميلتون ماكيناتهم الدعائيّة ليضمنوا موافقة حكومات الولايات.

كتب ويليام غرايسون من فيرجينيا: «يتم إخبارنا اليوم ... أننا سنتعرض للحروب ولتهديدات بالحروب، وأن كل كارثة ستنزل علينا، وسيحل علينا الخراب والفرقة للأبد، إذا لم نتبنّى هذا الدستور... وأن أهل كارولاينا من الجنوب، سيأتون علينا ليخربوا حقول الذرة، ويأكلوا أولادنا الصغار، هذا يا سيدي هو الخطر الداهم الذي ينتظرنا فيما لو رفضنا – مخاطر عبارة عن مجرد خيال، ومثيرة للضحك»

 في النهاية، تم حسم تبني الدستور بالمال. كالكثير من مساءلنا المعاصرة، لم تنقسم الأمة بين يساري ويميني، بل بين أصحاب نفوذ ممولين (هؤلاء دعموا الحكومة الفيدراليّة الجديدة)، ومعارضة شعبيّة (رفضت خسارة السلطات المحليّة وصعود سلطة الأوليغارشيّة). مناهضي الفيديراليّة كانوا ضعفاء أمام أدوات الإعلام والتأثير السياسي التي تملكها الأوليغارشيّة، الذين أقنعوا أصحاب المصالح التجاريّة، مالكي الأراضي الصغار، الفلاحين، التجار والحرفيين أن يصطفوا بجانبهم. بعد أن صادقت الولايات على الدستور الجديد، باشر أنصار النظام الجديد بمشروع طويل الأمد لتبديل، أو إعادة تشكيل دساتير الولايات وبناها التشريعيّة لتتوافق مع الحكومة الفيديراليّة.

 

الحاضر انعكاس لماضي.. غير ديمقراطي!

لا بد أن تعرف تاريخك. بدون معرفة الماضي سيستمر الاستبداد يلقي ظلمه علينا جميعاً في الحاضر. لنفهم بشكل أفضل ما حيك في ردهة الحريّة عام 1787، سنتصور أن مجموعة من رجال الأعمال فاحشي الثراء اجتمعوا سرّاً لصياغة مجموعة جديدة من القوانين، ولتشكيل نظام قضائي جديد لديه السلطة على بلدان عدة كاليابان، استراليا، كوريا، فييتنام، كندا، الولايات المتحدة وآخرين. ثم قامت هذه النخب الثريّة بإعطاء السلطة لنفسها لتشريع التجارة لمصلحتها الشخصيّة.

إذا كان ذلك مألوفاً بشكل مزعج، فلأن اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ» التي تجري في يومنا هذا تمر عبر الكثير من المناورات التي حصلت عند عقد مؤتمر فيلاديلفيا، في عام 1787، الذي أقر دستور الولايات المتحدة. الاتفاقية تلك هي صفقة تجاريّة يتم التفاوض عليها سرّا. مشرّعوا البلدان المتأثرة بهذه الاتفاقيّة ليسوا مشاركين – تماماً كما كان مندوبوا المستعمرات غائبين عن مؤتمر فيلادلفيا. المحاكم القضائيّة في الاتفاقيّة المقترحة ستغتصب سلطة محاكم البلدان، تماماً كما اغتصبت المحكمة العليا سلطة محاكم الولايات. في ظل اتفاقيّة الشراكة عبر المحيط الهادئ ستقع التجارة تحت سلطة مجلس الاتفاقيّة، بدلاً من مجالس الحكم المحليّة. ستعتبر القوانين المحليّة التي تنتهك الاتفاقيّة باطلةً، تماماً كما ألغيت قوانين الولايات المحليّة عندما تعارضت مع قوانين الحكومة الفيديراليّة القويّة المشكلة. تماماً كما عبرت في البداية اتفاقيّة الشراكة عبر الهادئ عبر مجلس الشيوخ، هكذا قام مؤلفوا الدستور بحشره من خلال عمليّة التصديق على الدستور.

تسمع اليوم أصداء الماضي من خلال مشاكل الحاضر. تم طمر النظريّة الثوريّة حول الديمقراطيّة في حفرة، واستمرت حفنة الأوليغارشيين حتى يومنا هذا. حكم الأوليغارشيّة تحت الخطابات الفارغة عن الديمقراطيّة مألوف جداً، ووجود أصحاب الملايين في الكونغرس وكون الطبقة الحاكمة من النخب الثريّة، يبدو أمريكي الأصل كفطيرة التفاح. إن ثمار سياسة المال السامة هذه ليست ما كان يزرع في فناءات المجتمعات المحليّة. إنها بديل ملوّث روجت له النخب الثريّة.

يقف اليوم حكم الأوليغارشيّة مختالاً، ليقتل العدالة والمساواة وحتى المواطنين العاديين. تفوح رائحة الديمقراطيّة من مطابخهم، ولكن انتبهوا! فطبيخهم مليء بالديمقراطيّة الكاذبة وبالتفاح السام الذي تروّج له الأوليغارشيّة. ويبقى السؤال... هل سنأكلها؟

 

ترجمة: بطرس شنيص