الطبقة العاملة الآسيوية، إذ تنتحر ولا تثور
محمد فرج محمد فرج

الطبقة العاملة الآسيوية، إذ تنتحر ولا تثور

تسمع أخبار عن انتحار العمال الآسيويين في شركة أبل احتجاجاً على ساعات العمل الإضافية الإجبارية، التي لم تترك حيزاً للتواصل الاجتماعي كبشر، وتسمع كذلك عن انتحار المزارعين في الهند إبان قضاء الشركات عابرة الحدود على نمط إنتاجهم وفرضها لأنماط جديدة أودت بأوضاعهم من السيء إلى الأسوأ.

وتسمع كذلك عن النسب المرتفعة للوفاة بحوادث السير في الباكستان إثر استخدام “الريغشا” والدراجات الصغيرة في مدن مكتظة ومتوترة بحجم توتر سكانها وهم بالفعل يصارعون البقاء، حوادث تبدأ أسبابها من اصطدام سائق دراجة بحافلة كبيرة ولا تنتهي عند تشابك ثوب امرأة مع عجلة تلك الدراجة.

في الباكستان، الحروب مع الجار الهندي والانتحار والانقلابات العسكرية (أيوب خان، ضياء الحق، برويز مشرف) أكثر بكثير من الثورات الشعبية، وفي الهند في حقبة التحرر من الاستعمار تم تصدير ثورة اللا-عنف والمقاومة السلمية أكثر من أي شيء آخر!

في قراءة التجربة الآسيوية، هل ثمة ميل للانتحار على حساب الثورة؟ هل تفجيرات القاعدة ذاتها تصنف في نفس الباب، الانتحار كملاذ من واقع مرير إلى آخر أجمل مع أنه متخيل ومحتمل!

عن حضارة الهند والسند

مع أن هذه الحضارة بنت تصورها الخاص للحياة من خلال الهندوسية وما لحق بها من تعديل ومناكفة من قبل تعاليم بوذا، ومع أنها امتلكت خصوصية في إنتاج تصور عام للحياة، إلا أنها لم تتميز في عالم الفلسفة كما هو الحال مع الإغريق، فما قدمته كان ديناً في بعض الأحيان، وأفكاراً مستندة إلى السفسطة في أحيان أخرى (كم التداخلات الهائلة في الهندوسية).

من جهة أخرى بقيت هذه الحضارة في حالة دفاع أكثر من أية محاولات في الهجوم والانتشار، هي منشرة بين عدد كبير من الناس المحصورين جغرافياً في مساحة السند والهند. بل تعرضت تاريخياً لهجوم مستمر من الفرس والإسكندر المقدوني، ولاحقاً من المسلمين.

لقد عمل الغزاة دائماً على خلق مسافة واسعة بينهم والسكان الأصليين، ولربما كان هذا التأسيس التاريخي للنظام المعروف في الهند “نظام الطبقات” أو “الطوابق” كما يحلو للبعض تسميته، وكان الطابق الأعلى، كما العادة، للكهنة.

في البوذية سر المتاعب هو رغبتنا في الحياة، شهيتنا الجامحة لها، وسر الراحة يكمن في قتل الرغبة وإطفاء الشهية تماماً، عندها ستصل إلى الرحلة الأرقى، النيرفانا. ستواصل روحك التنقل في أجساد الكائنات الحية، في دورات متتالية من الولادة (ولكن ليس الموت)، إلى أن تصل إلى هذه المرحلة (النيرفانا). (في الوقت الذي دعت فيه تعاليم بوذا لقتل الرغبة واليأس من الوصول إلى الغايات، دعت تعاليم كونفوشيوس إلى التنظيم الذي يسهل الوصول إلى الغايات، نتحدث هنا عن الصين !).

في الإسلام، هناك ما يشبه نزع الرغبة، أو ما يوصل إليه، أو ما يؤدي مؤداه…. الصبر على الحياة الدنيا، لطالما هناك آخرة، فيها خلود للنعيم! وهنا كانت مصيبة الباكستانيين، أنهم شربوا من الكأسين، كأس نزع الرغبة في البوذية، وكأس الإسلام في الصبر. كما تغتسل في نهر الغانغا وتتصور السبيل ثماني المعارج، كما تؤدي مناسك الحج!

عن الطبقات الآسيوية، وبوذا ومحمد

في الدولة التي تمتلك مفاعلاً نووياً (الباكستان) ينقطع التيار الكهربائي بمعدل 9 ساعات يومياً، بحجة أن البنية التحتية للدولة لا تحتمل توليد الطاقة الكهربائية لكل السكان في الوقت نفسه. يصل معدل الانقطاع إلى 16 ساعة يومياً في العديد من المدن في هذه الدولة، وهذه المدن هي الأكثر تعرضاً للتفجيرات (للانتحار).

في الدولة المجاورة التي تمتلك مفاعلاً من نفس النوع كذلك، تقفز القطط الجائعة على أسرة المرضى في المستشفيات، باحثة عن أي شيء يؤكل، وتنتشر الأمراض السارية دون قدرة على إيقافها، ونصف الشعب يدلك أقدام السادة، ويقاتل في “قن الدجاج” بضراوة كي يبقى على قيد الحياة على الأقل.

في “الدولتين” مشاهد كثيرة متشابهة ومتشابكة، لم يكن أديغا (في رواية النمر الأبيض) يروي قصة السائقين الهنود فقط، وإنما الباكستانيين كذلك، فجميعهم لا يؤذن لهم بسؤال سادتهم كم سيمضون من الوقت كي يعودوا، وما على السائق إلا الانتظار في المكان نفسه، ولو ليوم بأكمله.

العامل الآسيوي، الأكثر دقة، والأسرع، والأكثر طاعة، والأقل تمرداً ونزقاً. فهو يخشى الكثير، يخشى الزحام والمتربصين في قن الدجاج، ولكن الخشية تتداخل كذلك مع وعي آخر: النيرفانا والصبر، بوذا ومحمد، فالتراكم التاريخي يجعل من التداخل بين البناءين التحتي (الطبقي والاقتصادي) والفوقي (الوعي الاجتماعي) مسألة قابلة للتطبيق.

الانتحار الجماعي في الشركات الكبرى، والانتحار الجماعي في تفجيرات القاعدة، وانتحار المزارعين، والموت لربما المنتظر في حوادث الطرقات، وحتى انتحار العاشقين المحبطين في الحب في هذه البلاد، هو نتاج الوعي المركب، التاريخ والطبقة معاً في تشكيل بنية هذا الوعي، الطبقة في الصراع في القن، وفي محاولات الهروب إلى بلاد الأحلام (الخليج)، والتاريخ (بوذا ومحمد والغزاة) في الصبر على ساعات العمل وقهره. الطبقة في محاولات النجاة والتكيف، والتاريخ في الانتحار عندما تفشل التجارب المنبعثة عن وعي الطبقة.

المؤجل يعيق ثورة الآسيويين، ففي تناسخ الأرواح ولادة لربما تكون أفضل حالاً، ونهاية طريق الصبر خلود النعيم، وأخلاق السبيل ثماني المعارج تجعل من الرضا أو الانتحار خيارات أسهل بكثير من الثورة!

المصدر: راديكال