الأردن : دولة مخابرات أم دولة للمخابرات
يتصرف بعض الأردنيين وكأن الأردن مركز الكون وإحدى الدول الرئيسية المحركة للأحداث في المنطقة . وفي المقابل يشعر العديد من الأردنيين بالاستغراب والقلق وهم لا يستطيعون التوفيق بين واقعهم المزري وما يسمعونه ويقرؤنه ويشاهدونه في الإعلام الأردني عن المعجزات التي يقوم بها النظام الأردني على المستوى المحلي والإقليمي والدولي !!! .
لماذا يتصرف هذا البلد الصغير والفقير بموارده من منطلق الشعور بالعظمة ؟ ماذا يقف وراء مغالاة بعض الأردنيين في أردنيتهم والتي تجعل لسانهم أكثر قدرة على التعبير من إمكاناتهم ومواردهم الحقيقية ؟ ماهي حقيقة ما يجري ؟ لماذا ؟ ومن يقف وراء هذا السلوك ؟
يخلط بعض الأردنيين بين الوطنية والتعصب , بل ويجنح معظمهم إلى المغالاة في التعبير عن وطنيتهم إلى الحد الذي يوحي فيه للآخرين بأن الوطنية الأردنية تعني التعصب والانتقائية والإقصائية انطلاقاً من مفهوم أن " من ليس معنا فهو عدوناً " . وفي هذا السياق يَعْـتـَبِرُ أولئك المتعصبين أن أي اختلاف في وجهة النظر بينهم وبين أي مواطن أردني يشكل سبباً كافياً للانتقاص من وطنيته بل والتشكيك بها . كلام بعيد عن المنطق وعن الطيبة والأصالة التي يتمتع بها الشعب الأردني . والأنكى من ذلك أن أبناء هذه المدرسة يشكلون معظم طبقة أصحاب الحل والربط من أهل الحكم .
إن استئثار مجموعة من المتعصبين المتدثرين بستار الوطنية الأردنية بمقاليد الحكم في الأردن قد مكنهم من تسخير معظم إمكانات الدولة وأجهزتها لخدمة رؤيتهم الشاذة لما يجب أن تكون عليه الأمور . وبالنتيجة أدى ذلك السلوك واستمراريته إلى تشويه صورة الدولة الأردنية في عيون أبنائها وفي عيون الآخرين باعتبارها دولة عصبيات ومتعصبين وإقصائيين , مع العلم أن الدولة الأردنية , وهي نتاج الثورة العربية الكبرى وما رافقها من إفرازات , نشأت في أصولها نشأة عربية بمجتمع تعددي أصيل في تعدديته . وهكذا , فإن تسخير الدولة ومؤسساتها لخدمة مذاهب متعصبة واقصائية سيؤدي بالضرورة الى الإساءة الى هوية الدولة وسمعتها , وإلى تصنيفها من قِبـَلِ أبنائها الأحرار قبل الآخرين , بأنها دولة قمعية , أمرها وخيراتها لمن يحكمها وليس لأبنائها جميعاً دون تمييز .
لا توجد أي أسس فكرية أو ايديولوجية لهذا النمط من التفكير الإنطوائي المتعصب سوى الأنانية واحتكار السلطة والحفاظ على المكاسب . ومن أجل تعزيز ذلك , تم العمل وبشكل حثيث على تقسيم المجتمع الأردني بما يخدم أهداف هذا النمط من التفكير . كما تم طرح مقولات وأفكار توحي بوجود مخاطر نابعة من داخل مكونات المجتمع الأردني , والمطالبة بالتالي باعتبارها خطراً على الدولة الأردنية ومصالحها ومستقبلها , الأمر الذي يعكس عقلية الوصاية واحتكار الحقيقة . وهذه المخاطر تم الترويج لها من قبل العديد من المؤسسات والشخصيات الأردنية الملتصقة , بطريقة أو بأخرى , بجهاز المخابرات العامة الأردني , والذي هو في حقيقة الأمر حزب النظام أو الحزب الحاكم .
إن مفهوم نقاء الدولة هو مفهوم عنصري نازي ابتدأ في ألمانيا النازية وامتد الى الدولة الصهيونية التي تنادي الآن بيهودية الدولة . لا يوجد دولة نقية العنصر بالضرورة . والدولة العنصرية هي التي تحارب التعددية ليس فقط بالقول والفعل واستغلال القانون والتشريع , ولكن أيضاً بالحديد والنار . والأردن ليس كذلك وان كان هنالك من يحلم و يسعى لأن يجعله كذلك .
لقد التقت مصالح الحكم ومصالح هذه الطبقة المتنفذة في مخطط تمتد جذوره الى الدولة الأردنية العميقة بهدف إخضاع الأردنيين والسيطرة عليهم ضمن مخطط متعدد الأطراف يبدأ من سياسة تفكيك المجتمع , إلى سياسة التخويف , الى سياسة التخوين , الى الرشوة المعنوية من خلال المناصب والألقاب , الى الرشوة المادية التي فتحت باب الفساد على مصراعيه ولم تغلقه حتى الآن .
نحن إذن أمام مخطط مدروس وليس حالات عشوائية . ومع أن ما تمثله هذه الفئة لا جذور عميقة له في المجتمع الأردني , إلاﱠ أن نفوذها متجذر جداً داخل الدولة العميقة ومؤسساتها وأهمها على الإطلاق جهاز المخابرات العامة والمؤسسات الأمنية الأخرى المرتبطة به سواء المدنية أو العسكرية. فدورهذه المؤسسات مانع قاطع إن رَفَضَتْ , وداعم ومؤيد إن رَغِبَتْ . ان دور دائرة المخابرات العامة محوري وأساسي في تأييد سياسات معينة أو منعها بحجة تأثيرها على أمن الأردن ومصالحه . وقد ساهم في تعزيز هذا الدور الاستقلال المالي والأستثماري والأمكانات الهائله التي يتمتع بها هذا الجهاز الذي لا يخضع لرقابة الدولة كما هو حال باقي المؤسسات والدوائر . نحن لا نريد تجريم أحد , كما لا نريد " تبرئة الذئب من دم إبن يعقوب " . ما يهمنا هو التعامل مع الحقائق حتى نتمكن من فهم ما يجري والوصول الى حلول لسياسات أصبحت تعصف بالأردن وبضمير المواطن الأردني الحر .
جهاز المخابرات العامة في الأردن ليس كأي جهاز مخابرات آخر . فهو الجهاز المهمين والمسيطر الى الحد الذي أصبح فيه تجسيداً لثقافة سياسية واجتماعية ووظيفية . إرادته ترفع من شأن أي مواطن , وإرادته تستطيع تدمير أي مواطن وإلغاء فُرَصِهِ مهما كانت المؤهلات والطاقات التي يتمتع بها . وهذا الأجراء يسمى في العرف الشعبي "قطع الأرزاق" . الطاعة العمياء والانضباط هما كلمة السر , والتطور المتواصل والإمكانات الهائلة التي يتمتع بها هذا الجهاز جعلت منه القوة الحقيقية المهيمنة والمحركة للأفراد والأحداث وللسياسات والفلسفات. ولو شاء هذا الجهاز , مثلاً , لَوَضَعَ حداً لكل الأفكار الانقسامية و التعصبية والإقصائية التي تعصف بالمجتمع الأردني . ولكنه لم يفعل ذلك مع العلم أن القائمين على تلك الأفكار هم من المحسوبين على ذلك الجهاز.
ومن أجل الوصول الى الهيمنة الشاملة , كان من الضروري أن يتغلغل هذا الجهاز في كل مفاصل الحياة وكذلك في شريان كل جيل من الأجيال بحيث يتم السيطرة على المواطن من سنين تكوينه الى سنين اعتزاله أو موته . والوسائل المستخدمه لتحقيق ذلك تطورت من مفهوم الرصد والتجسس على الآخرين الى مفاهيم ومستويات أعلى من ذلك بكثير مثل السيطرة الغير مباشرة على الإعلام , والجامعات والمعاهد والمدارس , ومؤسسات الدولة العليا , وشركات الطيران والحكومة ومجلس النواب وبالضرورة الأعيان والى حد ما القضاء , ناهيك عن الحكومة نفسها .
جهاز المخابرات العامة هو في الواقع الدولة الأردنية العميقة نفسها وحزبها الحاكم . ومنتسبوا هذا الجهاز هم نوعان : المنتسب العادي , والملتزم بشكل عام بحكم الوظيفة أو المركز الذي وصل إليه بفضل جهاز المخابرات , وهؤلاء يشكلون القاعدة العريضة لنفوذ المخابرات .
إنه لأمر عجيب وخطير ومخيف ومؤلم ذلك الذي يجعل الدولة الأردنية عبارة عن مؤسسة أمنية كبيرة , كل من ليس منها لا يملك الحق أو الفرصة للوصول الى المنصب إلا برضى أو ترشيح جهاز المخابرات , اللهم إلا إذا كانت بعض الظروف الطارئة تتطلب عكس ذلك , وهي حالات استثنائية . فالتوجيه الأمني وليس الحكومي هو ما يُعْتَدّ به . والحكومة التي يتبع مدير المخابرات العامة دستورياً لرئيسها (من الناحية النظرية) هي نفسها غالباً ما تكون نتاج توصيات دائرة المخابرات العامة في تشكيلتها بما في ذلك الرئيس والوزراء . ولا تعلو أي إرادة على إرادة جهاز المخابرات إلا إرادة الملك نفسه , وهو لا يمارسها إلا في أضيق الحدود وعلى مستويات وظيفية عالية , والباقي يمارسها جهاز المخابرات وافرازاته الوظيفية والمؤسسات المرتبطة به .
الهيمنة التاريخية لجهاز المخابرات العامة الأردني مورست على أكثر من خمسة أجيال من الأردنيين مما مَكّنها بالنتيجة من التغلغل في المستويات المختلفة للعديد من المؤسسات المدنيه الرئيسية في الأردن من خلال حقنها بعناصر تدين بالولاء لوجهة نظر دائرة المخابرات العامة من مختلف القضايا ومع الوقت تصدرت هذه العناصر معظم المناصب القيادية في تلك المؤسسات , كما هو عليه الحال الآن .
وهكذا , يجب النظر الى الدولة الأردنية ليس باعتبارها مُخْتَرَقَةٌ من جهاز المخابرات العامة , وانما تجسيدٌ وامتدادٌ له . فما ابتدأ كإختراق أمني للمجتمع , تحول الآن الى ثقافة وواقع حال يسيطر على المجتمع ومؤسساته التي يديرها جهاز المخابرات العامة كما يشاء.
وفي سياق التغول على المجتمع ومؤسساته , بما في ذلك جهاز الدولة , امتد تغلغل نفوذ جهاز المخابرات ليشمل العملية الديموقراطية والإصلاح السياسي الذين تم تطويعهما ليصبحا جزءاً من الرؤيا الأمنية لما يجب أن تنتهي اليه مطالب الأصلاح , وليس استجابة لرؤية الشعب ومؤسسات المجتمع المدني . وهذا ما حصل فعلاً حيث انتهت دورة الأصلاح السياسي كما ابتدأت , خصوصاً ما تعلق بقانون الصوت الواحد و قانون الأنتخاب مروراً بقوانين الأحزاب والمطبوعات .
ولعل أخطر ما تم في هذا السياق هو اختراق المؤسسات الديموقراطية بحيث تصبح إما امتداداً للأجهزة الأمنية او تحت نفوذها بطريقة أو بأخرى . وشمل ذلك عمليات الانتخاب نفسها وعضوية اللجان المشرفة عليها بما في ذلك الانتخابات النيابية والبلدية . وربما كان الاستثناء الملحوظ لذلك حتى الآن هو الانتخابات النقابية الى حد كبير . ويبقى الأهم في عملية الاختراق هو التلاعب بنتائج الانتخابات بطرق عديدة أبسطها التزوير التقليدي في محاولة للسيطرة على السلطة التشريعية ممثلة بمجلس النواب المنتخب .
وقد لجأ جهاز المخابرات العامة الى وسائل أخرى للهيمنة على الفرد والمجتمع ومنها الوظيفة وما يرافقها من مكاسب والمنصب وما يرافقه من ألقاب والتي أصبحت الهدف المنشود لكل أردني طامح في المنصب الحكومي أو السياسي , وبالطبع لكل شيء ثمنه . وهذا يؤدي بالنتيجة الى وضع لا ينتج عنه رجال دولة بل موظفين بدرجة رئيس أو وزير باستثناءات قليلة تم تصنيفها من قبل النظام بالجحود أو بالمعارضة أو ربما بما هو أكثر من ذلك .
هذا هو واقع الحال في الأردن , والأمور تسير إلى ما هو أسوأ . وقد يأتي يوم نرى فيه سيطرة دائرة المخابرات العامه على الأردن كامِلةً وبشكل يجعل منها " الأخ الأكبر " الذي يدير الدولة والشعب من خلال ثقافة الخنوع والأستسلام والمنفعة و رشوة المناصب والألقاب والمكرمات التي باتت تميز الأردن باعتباره حاضنة لهذا النهج . ولا خلاص للأردن من هذا المأزق إلا الديموقراطية الحقيقية التي تسمح ببروز أحزاب جديدة وقيادات شابة من خارج الفخ الجهنمي الذي يعيش الأردنيون الآن في كَنَفِهِ شاؤوا ذلك أم أبوا .
التاريخ: 31/03/2014 ـ صحيفة رأي اليوم الالكترونية