البحرين: ثلاثة أعوام على الوصاية السعودية
قبل ثلاثة أعوام، في 14 آذار/ مارس 2011، عبَرت قوات وآليات عسكرية سعودية جسر الملك فهد الذي يربط السعودية بالبحرين. وأعلنت السلطات البحرينية أن القوات السعودية دخلت بدعوة رسمية من ملك البحرين للمساعدة في «حفظ الأمن» بعد شهر من الحراك الجماهيري الذي تضمن مسيرات احتجاجية في مختلف المناطق، علاوة على إضرابات واعتصامات أشهرها اعتصام في ميدان اللؤلؤة في العاصمة المنامة. وكان لافتاً أن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى لم تشارك القوات السعودية في مهماتها في البحرين، فيما عدا دولة الإمارات العربية التي أرسلت 500 عنصر من الشرطة.
قوات سعودية بغطاء خليجي
بذلت السلطات البحرينية والسعودية جهودا ملحوظة لإبراز التدخل السعودي باعتباره جهداً خليجيا مشتركاً تمّ تحت راية «قوة درع الجزيرة»، وبغطاء من اتفاقية الدفاع المشترك بين دول المجلس. وكثرت تصريحات قائد القوة السعودية، اللواء الركن مطلق بن سالم الأزيمع، التي تؤكد ان «قوات درع الجزيرة بقيت متمركزة في المواقع المخصصة لها لحماية الحدود البحرينية بسبب انشغال الأجهزة البحرينية بتدبير أمور أمنها الداخلي مما زاد من حاجتها إلى تأمين حدودها الدولية». ونفى اللواء ما تداولته وسائل الإعلام الخارجية عن مشاركة قواته في عمليات «تطهير ميدان اللؤلؤة» وما تلاها من حصار قرى وأحياء سكنية بهدف تمشيطها واعتقال من وردت أسماؤهم في قوائم الناشطين. وبسبب إعلان حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر، بما فيها فرض منع التجول، لم يكن ممكناً لنشطاء المعارضة أو أية جهة محايدة تكذيب تلك الرواية وتحديد نوعية الدور الذي قامت به القوات السعودية والشرطة الإماراتية في المناطق التي فُرض الحصار عليها. وحتى في الحالات التي تمّ فيها تصوير مجموعات عسكرية ملثمة وهي تهدم مساجد أو تتلف ممتلكات، فلقد كان من المستحيل معرفة جنسيات المشاركين.
اضاف الموقف من التدخل السعودي في توسيع الهوة المتنامية بين قوى الموالاة وقوى المعارضة في البحرين. فمن جهة، اعتبرت بعض قوى المعارضة ذلك التدخل المباشر «احتلالا» وطالبت بجهد دولي لحماية شعب البحرين، ومن الجهة الأخرى رحبت قوى الموالاة به واعتبرته تأكيدا لاهتمام «الشقيقة الكبرى» بإعادة الاستقرار إلى البلاد. ويجد هؤلاء ما يسندهم في التصريحات
التي يكررها الملك البحريني وأركان نظامه من أن ذلك التدخل «أفشل مخططاً يُحاك ضد البحرين وباقي دول مجلس التعاون الخليجي منذ ثلاثين سنة».
تأكدت بعض الروايات عن مشاركة السعوديين والإماراتيين في العمليات الأمنية بعد حادث التفجير في قرية الديه قبل أيام (في 3/3/2014) الذي أدى إلى مقتل وإصابة عدد من رجال الأمن من مختلف الجنسيات. فلقد تبين إن من بين القتلى ضابط من شرطة دولة الإمارات كان يشارك في تمشيط القرية. وإشار بيان النعي الذي أصدرته وزارة الداخلية الإماراتية إلى أن الضابط القتيل، وعنصرين آخريْن من مواطني الإمارات أصيبا بجروح، كانوا يؤدون «مهامهم الوطنية بحفظ الأمن» في تلك القرية البحرينية المنكوبة.
إعلان غير رسمي عن الوصاية السعودية
تعددت تفسيرات أسباب التدخل السعودي. إلا أنه من الصعب القبول بأن سببه هو اقتناع الرياض بأن النظام الملكي في البحرين كان على وشك السقوط، وهو لم يكن يواجه تهديداً أمنيا جدياً يفوق قدرة قواته العسكرية وأجهزته الأمنية. فخلال أربعة أسابيع من مختلف أشكال الحراك الجماهيري في البحرين، بما فيها المواجهات الغاضبة مع قوى الأمن، لم تتعرض للإتلاف أية منشأة حكومية أو مؤسسة تجارية. إلا أن الملك البحريني بدا متيقناً أن البحرين بعد حراك دوار اللؤلؤة لن تعود كما كانت قبله. فلقد برزت شواهد التغيير في نفوس الناس حين لم يقفوا في الطوابير لاستلام «مكرمة الألف دينار» التي أعلنها الملك عشية الدعوة إلى التظاهر في 14 شباط/ فبراير 2011، وكذلك حين عبَروا حاجز الخوف بعد ذلك بثلاثة أيام ليصلوا إلى الدوار رغم الرصاص وكثافة استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع.
يمكن تفسير التدخل العسكري السعودي إذاً باعتباره إجراء استباقياً لمنع ما اعتبره كثيرون تنازلات سياسية كان ولي العهد البحريني يوحي باستعداده لتقديمها إلى المعارضة بضغط من الإدارة الأميركية. فأحد الأهداف من تشكيل قوة درع الجزيرة هو توفير أداة إضافية لحماية الأنظمة الخليجية من مخاطر داخلية وخارجية قد تتعرض لها. وهو أيضاً وسيلة إضافية لحماية كل أسرة حاكمة من خلافاتها الداخلية، بحيث لا يقود التنافس بين أجنحتها إلى محاولة حسم ذلك بدون رضى بقية الأسر الحاكمة في بلدان المجلس.
اختبرت تفاعلات حراك دوار اللؤلؤة في البحرين هذا البعد، واتضحت أهمية تفعيل الدور السعودي بعد تسريب موافقة الملك في 4 آذار/مارس 2011 على اقتراح المبعوث الأميركي
جيفري فيلتمان (مساعد وزيرة الخارجية آنذاك) بالتخلي عن عمه الذي يتولى رئاسة الوزارة منذ إعلان استقلال البحرين في 1971. وكان لافتاً وقتها أن فيلتمان أشاد بالملك وولي عهده، وإن اجتماعاته بالمسؤولين في البحرين لم تشمل رئيس الوزراء. وحسب تقرير لـ«مجموعة الأزمات الدولية» (11/9/2011)، كانت تلك المقترحات ستؤدي إلى «وضع البلاد على طريق نظام ملكي دستوري مع رئيس وزراء منتخب وبرلمان ذي أغلبية شيعية، وهو احتمال أفزع رئيس الوزراء الذي كان منصبه على المحك، والعائلة المالكة في السعودية الذي يرقى الصعود الشيعي في تصوّرها إلى تخليها عن نفوذها لمصلحة نظام الملالي في طهران».
يسند هذا التفسير سلسلة من تدخلات عسكرية وأمنية قامت بها السعودية منذ إعلان استقلال البحرين في 1971. وهي تدخلات تشير إلى إحدى المسلمات السياسية في المنطقة. وقد نقل أحد تقارير «معهد بروكينغز» الأميركي (تموز/ يوليو 2013) ما ذكره «مسؤول بحريني كبير» من وصف معبّر حين شبَّه أهمية البحرين بالنسبة للسعودية بأهمية هونغ كونغ إلى الصين. ويمكن ملاحظة المؤشرات السياسة والاقتصادية والأمنية التي تؤكد أن السعودية تتصرف في البحرين باعتبارها محمية لها. ولهذا لم يكن متوقعاً أن تسمح بأي تغيير سياسي فيها من دون موافقتها، وبالتأكيد لن تسمح بأن يتولى إدارة البحرين من لا يوالي السعودية، حتى ولو جاء بتوافق بين القوى الفاعلة في البلاد، بمن فيها العائلة الحاكمة والقوى الرئيسة في المعارضة.
الخشية من عدوى دوار اللؤلؤة
سهّل الجسر الذي يربط بين البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية التواصل بين الجارتين في مجالات تتجاوز الاستثمار والسياحة والتعاون الأمني والعسكري. وبرزت آثار ذلك بوضوح أكبر منذ بدء «المشروع الإصلاحي» بعد سنة من استلام حمد بن عيسى زمام الحكم في البحرين العام 1999. فلقد تطلب تسويق ذلك المشروع انفتاحاً سياسياً وانفراجاً في القبضة الأمنية تمثل في عودة آلاف المنفيين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والاعتراف بحق تأسيس التنظيمات السياسية والنقابية. وصاحب ذلك أيضاً حراكٌ غير مسبوق لمكونات المجتمع المدني، علاوة على نشاطٍ ثقافي شمل إقامة الندوات والمحاضرات. ولم يعد هدف عشرات الألوف ممن يعبرون الجسر من السعودية إلى البحرين مجرد قضاء وقت للراحة أو اللهو أو زيارة أهل وأصحاب، بل صارت تجتذبهم أيضاً تلك الفعاليات الثقافية والسياسية التي كانت تشهدها مختلف مناطق البحرين. وأسهمت مشاركات القادمين من السعودية في اغناء تلك الفعاليات وجددت روابط اجتماعية تاريخية بين المنطقة الشرقية والبحرين. وهي تزايدت خلال الأربعة أسابيع التي استمر فيها اعتصام دوار اللؤلؤة.
الملك السعودي: «لماذا تأخرتم؟»
اتساع مجالات التواصل بين المنطقتيْن، وإن كان مقلقاً لسلطات البلديْن، فإنه لم يشكل في حد ذاته خطراً، بل كانت السلطات الأمنية قادرة على إدارته ومحاصرة نتائجه. فعلى سبيل المثال، كانت السلطات تعلن إلغاء بعض الفعاليات الثقافية والسياسية لأسباب أمنية أو تمنع خروج أو دخول «المشتبه بهن وبهم» على الجسر الذي يربط البلدين. إلا أن القلق السعودي مما يحدث في البحرين تحول إلى ذعر بعد أيام من اندلاع حراك دوار اللؤلؤة على بعد أقل من ثلاثين كليومتراً من منطقتها الشرقية. حينها بدت السعودية محاصرة بما تنقله وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من أخبار وتفاصيل أجواء الانتفاضات التي كانت تعم المنطقة العربية، وخاصة في بلدين مجاوريْن يخضعان لهيمنتها، اليمن والبحرين. لهذا لا يبدو مستغرباً الإشارة إلى عامل إضافي دفع السعودية إلى التدخل العسكري هو خشيتها من انتقال العدوى إليها. ويصف رئيس الوزراء البحريني هذا الوضع إذ قال إنه حين ذهب لمقابلة الملك عبد الله ليشرح له «ما يجري ولطلب العون ضمن اتفاقيات مجلس التعاون، قال لي: إنني كنت في انتظاركم، لماذا تأخرتم؟».
جمعة الغضب في السعودية
تحول قلق السلطات السعودية إلى ذعر حقيقي بعد إعلان نشطاء سعوديين عن نيتهم تنظيم «يوم غضب» في بلادهم على غرار ما حدث في بلدان عربية أخرى. وكان لافتا في السياق الأمني السعودي أن يشارك أكثر من ثلاثين ألف شخص في إحدى تلك الدعوات على الفايسبوك، فلم تعد المسألة مجرد رهاب أمني. وبالفعل، وضمن التحضيرات ليوم الغضب، خرجت تظاهرات متفرقة في مدن عدة في المنطقة الشرقية تطالب بالإفراج عن معتقلين سياسيين. واجهت الشرطة تلك التظاهرات بعنف أدى إلى سقوط عدد من الجرحى واعتقال آخرين. وتكررت المواجهات بين النشطاء وقوات الأمن السعودي في العاصمة الرياض وحولها، مما دفع السلطات إلى القيام بعدد من الإجراءات الاستباقية شاركت فيها جميع الأجهزة الرسمية الأمنية والسياسية والدينية والإعلامية. شملت تلك الإجراءات قبل ساعات من فجر 11 آذار/ مارس (موعد «يوم الغضب») نشر أعداد كبيرة من قوات الأمن الخاصة ومكافحة الشغب في مختلف المدن بما فيها الرياض. وأصدرت هيئة كبار العلماء، التي تعتبر أعلى مرجعية دينية رسمية في البلاد، فتوى بتحريم المشاركة في التظاهرات باعتبارالدعوة إليها «تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية». وعلى
الرغم من ذلك خرج آلاف السعوديين في مختلف المدن في ذلك اليوم. إلا إن إجراءات السلطة تمكنت في آخر الأمر من احتواء تلك الاحتجاجات العلنية ومنع انتشارها.
وبعد أيام من دخول قواته لقمع حراك اللؤلؤة في البحرين، ألقى الملك السعودي خطاباً متلفزاً كرر فيه العزم على «مكافحة الفساد والبطالة». وأعلن عن عدد من «المكرمات بما فيها رفع الحد الأدني لرواتب العاملين في مؤسسات الدولة، وتخصيص أربعين مليار ريال سعودي (أكثر من عشرة مليارات دولار أميركي) بهدف «توفير أسباب الحياة الكريمة للمواطنين». إلا أن الملك أعلن أيضا تعزيز أجهزة الأمن بإضافة «60 ألف وظيفة جديدة» إليها كي تتمكن من أداء مهماتها و«ضرب كل من يحاول زعزعة استقرار المملكة».
* أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوند ـ السويد، من البحرين