أكثر من مجرّد مشاريع سوقيّة
على طول الطيف السياسي حول العالم، وخاصة في الدول الغربية المركزية، لم تعد الاشتراكية كلمة موبوءة يخشاها السياسيون وتتبناها فقط «الأحزاب التي تشبه فرقة روك فاشلة تحاول الصعود إلى المسرح»، ويشهد على ذلك عودة بزوغ خطب سياسية أكثر راديكالية، وكذلك تحقيق كتب من أمثال كتاب توماس بيكتي «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» لمبيعات تصل إلى 2,5 مليون نسخة مسجلة، وتحوّل كتاب «رأس المال» لماركس إلى أفضل المبيعات في قسم «المنشورات المستقلة» في كيندل.
تعريب وإعداد: عروة درويش
منذ الانهيار المالي عام 2008، بات التركيز على النخبة الذين يشكلون 1% من السكان أكبر، وعادت الأفكار اليسارية والماركسية لتجد مكانها بقوّة بين الحشود التي تحاول استيعاب ما يحدث. لكن عند التدقيق أكثر فإنه ليس من الواضح مدى اتساق اهتمامنا الحالي باللامساواة- لا سيما اللامساواة في الدخل- مع النظرية الماركسية، أو مع الأفكار التي هيمنت على النقاشات المتعلقة بالسياسات الاجتماعية في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
في الحقيقة يمكن للمرء أن يجادل بأنّ تركيزنا الحالي على الدخل واللامساواة في الثروة، وذلك رغم أهميته الحيوية لأيّ خطة عمل تقدمية، يفتقد إلى بعض أهمّ جوانب نقد الرأسمالية في القرن التاسع عشر. لقد كانت «اللامساوة في الدخل» كلمة مراوغة ومجرّد مصطلح ثانوي في أفضل حالاته. إنّ تحويل مصطلح اللامساوة إلى «نقود monetization» هو طريقة حديثة نسبياً في النظر إلى العالم. وبغض النظر عن قوته الواضحة، وكما صاغ الأمر المؤرخ بيدرو راموس بينتو، فقد كان كفيلاً «بتضييق» الأفق الذي نفكر فيه بالعدالة الاجتماعية.
الكلمة المفقودة
إنّ فهمنا للامساواة بوصفها شيئاً يمكن قياسه بتوزيع الدخل والثروة بين الأفراد بدلاً من توزيعها بين أطراف الإنتاج، مثل: العمّال والرأسماليين، لم ينتشر على هذا النحو إلّا بعد عقود من موت ماركس عام 1883. فكما حاجج برانكو ميلانوفيتش لفترة طويلة: «إن افترضت بأنّ جميع العمّال يعيشون على الكفاف وجميع الرأسماليين أثرياء وجميع ملّاك الأرض أكثر ثراءً» فلن يكون من المنطقي التفكير في اللامساواة على مستوى فردي. لم يخطر ببال أيّ مفكّر على الإطلاق حتّى فترة متأخرة من القرن التاسع عشر أن يرتّب الأفراد تبعاً لدخلهم الكلي من أجل قياس التوزيع. إنّ الذي كان مهماً بالنسبة لهم هو الفروقات بين الطبقات وليس بين الأفراد. ساد هذا الأمر حتّى قيام عالم الاجتماع الإيطالي فيلفردو باريتو (وقد أصبح من المتعاطفين مع الفاشية) بتقديم الأدوات الملائمة لقياس اللامساواة بالشكل الذي نعرفه اليوم.
لقد فكّر ماركس بشكل واضح بالرأسمالية كنظام لمراكمة الموارد الاجتماعية بشكل غير متساوٍ جذرياً. في الفصل 25 من كتاب رأس المال حيث تعامل مع «قانون التراكم الرأسمالي»، كتب ماركس بأنّ: «تراكم الثروة في طرف واحد... هو في الوقت ذاته تراكمٌ للبؤس والمعاناة والعبودية المنهكة والجهل والوحشية والانحطاط النفسي في الطرف الآخر». فكّر ماركس باللامساواة بوصفها مصطلحاً يعبر عن الفروق بين الطبقات التي تنتجها الرأسمالية.
الحرب الرأسمالية ضدّ المساواة
لم يخطر ببال المفكرين وصانعي السياسات بعد الحرب العالمية الثانية أن يأخذوا مسألة المساواة بشكل منفصل عن مسألة السوق. وليس ذلك لأنّها كانت ذات أهمية ثانوية بالنسبة لهم، بل على العكس تماماً، لأنّهم نادراً ما فكروا بأنّ «اللامساواة» مستقلة عن مسألة الدور الذي تلعبه السوق في أيّ مجتمع.
كتب الاقتصادي والصحفي الفرنسي يوجين بوريت عام 1841 أوّل تحليل عام لأسباب الفقر داخل النظام الصناعي الناشئ، وأشار إلى أنّه «عند وجود البؤس... في المكان ذاته الذي توجد فيه الثروة... فإنّه ينمو تحت تأثير الأسباب ذاتها التي شكّلت الثروة»، ودافع عن إنشاء «مؤسسات عادلة» لتضع حداً «للحرية الاقتصادية» وتضع نهاية لما يطلق عليه «النظرية الوحشية والميؤوس منها لاعتبار العمل سلعة». وبعد قرابة قرن أتى عالم الاجتماع البريطاني تي. إتش مارشال ليتحدث عن «المساواة الأساسية» التي لا يمكن «إنشاؤها والحفاظ عليها دون انتهاك حريّة السوق التنافسية». لقد اعتبر مارشال وهو الذي لم يكن ماركسياً بأنّه من الواضح أنّ: «المواطنة في حالة حرب مع الطبقة الرأسمالية».
ولهذا فإنّ المؤسسات التي وضعت أسس دول الرفاه المعاصرة قد التزمت منذ بدايتها بوضع حدود لمجالات السوق، من أجل إنتاج مجتمع أكثر تساوياً. ولهذا قال ستيفن فريزر: «إنّ القضيّة العمالية تدور حول... إيقاف التهديد على السياسات الديمقراطية المتمثل بسطوة وثروة الشركات، والتي هي السبب أيضاً في الحروب العالمية والإمبريالية».
أنقذوا وجدان الإنسان
كان للمشكلة التي أثارتها ولادة «المجتمع السوقي» في القرن التاسع عشر صدى أخلاقي لدى العديد من المفكرين التقدميين، وكان إنشاء مؤسسات مصممة لتضع حدوداً للسوق هو طريقة للحفاظ بشكل حقيقي على النظام الديمقراطي وعلى بعض القيم الإنسانية الجوهرية. كان المهم بالنسبة لأمثال بولاني أو إي. بي ثومبسون هو «الدمار الروحي والأخلاقي» الذي تسببه الرأسمالية. فقد كان هؤلاء المفكرون يرون بأنّ المجتمع السوقي لم يقم فقط بإزالة مسألة تخصيص الثروة والموارد من التداول السياسي، بل حوّل كذلك طبيعة التعاملات الاجتماعية. لقد «كسر» توسّع المجال الاقتصادي العلاقات والروابط التي لا تحكمها تعابير «المصالح الذاتية... التي يتم دفع المال لقاءِها» وكما عبّر ماركس عن الأمر: «أُغرقت أكبر ابتهاجات الحماسة الدينية حرارة في المياه المتجلدة للحسابات الأنانية».
بأيّة حال لم يكن نظام الرفاه يدور فقط حول إعادة التوزيع البسيطة، بل حول إنشاء مؤسسات ديمقراطية تلغي ما أطلق عليه بيفردج اسم: «الآثام الكبرى» الخمسة (العوز والجهل والمرض والفساد والبطالة). وعليه فقد كان يفترض بدول الرفاه ألّا تقدم فقط أداة قويّة للمساواة، بل أن تعد بمجتمع جديد كلياً، وتنهي فصل الرعب والحرب الذي قام على الاستغلال في القرن التاسع عشر.
صيغة مِلكيّة جديدة
بات هنالك مصطلح جديد هو «المِلكيّة الاجتماعية» والتي هدفت مؤسسات الرفاه لبنائها إلى جانب «المِلكية الخاصة» من أجل أن توفّر لغير المالكين الموارد اللازمة للوصول إلى السلع والخدمات الاجتماعية التي تخدم غرضاً اجتماعياً. وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي روبرت كاستل: «فإنّ هذا النوع من المِلكية ليس مؤسساً ليتطابق أو ليدور في سياق التبادل السوقي». بل هو محكوم بقواعد ديمقراطية. لقد سمحت مؤسسات الرفاه عبر تمويل برامج حماية واسعة النطاق وفرض معدلات ضرائب عالية على الأثرياء وتخصيص العائدات لإنشاء خدمات عامة أكبر، بخلق «ِملكيّة اجتماعية» جديدة. والجانب الأكثر أهميّة في هذه المؤسسات هو عموميتها حيث بدأت بشكل تدريجي تفيد القسم الأكبر من السكان.
لقد غزت حمّى «مؤسسات الرفاه» العالم. فقد بات الجميع يعلن عن التزامه بمفهوم عولمة هذه المؤسسات المثالي، من إعلان فيلادلفيا عام 1944 عن كون «العمالة ليست سلعة» وأنّ «توسيع الأمن الاجتماعي» هو الهدف، إلى إشارة منظمة الصحة العالمية عام 1946: «إنّ الوصول لأعلى مستويات الصحة الممكنة هو حق»، إلى دعوة الاقتصادي السويدي الحائز على جائزة نوبل غونار ميردال إلى إنشاء: «عالم الرفاه»، إلى إعلان قادة العالم ما بعد الاستعماري من أمثال جواهر لال نهرو وكوامه نكرومه وليوبولد سيدار سنغور الالتزام ببناء مؤسسات الرفاه خارج حدود العالم الإمبريالي.
لكن بروز فكرة ما يسمّى «بالمجتمع الغني» والأوهام الشديدة الذي حملها بخصوص فوائد النمو المشتركة، أدّى إلى وضع فكرة المساواة كقضية سياسية جانباً. لاحظ جون غالبريث في كتابه الذي حقق أفضل المبيعات في عام 1958 «المجتمع الغني» بأنّه: «يبدو واضحاً انخفاض الاهتمام باللامساواة كقضيّة اقتصادية». رأى غالبريث بأنّ الزيادة المذهلة في الإنتاج قد عملت «كبديل عن إعادة التوزيع». فالفقر المتبقي في «المجتمع الغني» هو ما كان يلفت انتباه العامّة في بداية الستينيات، لكنّ هذا الاهتمام المندفع بالفقر لم يحيِ الالتزام بمناهضة السوق الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، بل أعاد عوضاً عن ذلك تشكيل الأفكار حول العدالة الاجتماعية. لم تعد اللامساواة هي القضيّة الكبرى، بل فقط الفقر.
الانتقال إلى الفقر
لقد تحوّل ما كان في بدايته حساباً إحصائياً لاستمرار الفقر في أمريكا «الوفرة» المنشور عام 1959 بشكل سريع إلى نقد أكثر عمقاً للكيفية التي تمّ فيها تصوير الفقر منذ القرن التاسع عشر. إنّ الفكرة التي باتت شعبية هي أنّ «الفقر» كان ظرفاً «محدداً» منفصلاً عن العمالة أو عن اللامساواة أو عن السوق. وقد وجدت هذه الفكرة صداها في كلمات صاموئيل هارنغتون واسع الشهرة عندما قال بأنّ الفقراء: «هم غرباء من الداخل، يترعرعون في ثقافة مختلفة تماماً عن تلك التي تهيمن على المجتمع».
لقد أصبح الفقر بهذا المعنى منفصلاً عن مسألة الاستغلال. وليس من المصادفة أنّ كلمات «استغلال» أو «اشتراكية» أو حتّى «لامساواة» بالكاد تظهر في كتاب هارنغتون، وهو ما يشكّل تراجعاً واضحاً عن نهج مفكري القرن التاسع عشر الذين لم يفصلوا بين هذه المسائل على الإطلاق. لكن إن كان الفقراء يشكلون «نمط نظام متمايز» فهم إذاً يمثلون مشكلة محددة منفصلة عن غيرها من المسائل. ويبدو هذا النهج جلياً في مراجعة دوايت مكدونالد عام 1963 الذي قال: «ليس اللامساواة في الثروة بالضرورة مشكلة اجتماعية كبرى بحد ذاتها». لقد كان القول واضحاً على أننا بحاجة «لإيجاد أرضيّة» وليس نظام أمن اجتماعي يبقي على حدّ تعبيره: «الفقراء على فقرهم للأبد».
شهدت بداية السبعينيات في كلا الولايات المتحدة وأوروبا كلتيهما الصعود الهائل «لمسألة الفقر»، وهو ما حفّز بقوّة نظرة للعدالة الاجتماعية تركّز على التصوير المالي-النقدي للفقر. وبالفعل فإنّ التركيز على إنشاء «أرضيّة» تمنع سقوط أحد قد أزاح جانباً أيّ نقاش عن بناء حدود للسوق أو تقليل الاعتماد عليها. باتت اقتراحات الدخل المضمون وبرامج ضريبة الدخل السلبيّة ذات شعبية كبيرة بين صانعي السياسات والأحزاب السياسية على طول الطيف السياسي العالمي، وذلك بوصفها طريقة نهائية لمحاربة الفقر مع التركيز على التدخل عبر مشاريع الاقتصادات الصغرى وتعقيد مشاريع الرفاه.
كانت هناك نقاشات زاهية في هذه الحقبة حول تعريف الفقر و«العوز»، ممهدة الطريق للبرامج الطامحة لقياس ومقارنة مستويات الفقر حول العالم. ففي فرنسا قام موظف الخدمة العامة ليونيل ستولرو، الذي درس أفكار ميلتون فريدمان عن ضريبة الدخل السلبية في «معهد بروكينغز» في بداية السبعينيات، بتقديم مختصر ملائم لهذا التحول. فبرأيه كان التركيز على «الفقر» هو السياسة الاجتماعية الوحيدة المنطقية داخل نظام السوق الحرّة. فإن تبعنا السياسة التي تميل للتقليل من اللامساواة فسوف نؤثر حتماً في «قلب ديناميكية اقتصاد السوق». لكن من جهة أخرى فإنّ البرامج الموجهة لمناهضة الفقر كما حاجج فريدمان بنفسه: «حيث تعمل عبر السوق... سوف لن تفسد السوق أو تعيق عملها» كما فعلت البرامج الكينزية.
كان يرى بأنّ مفهوماً للعدالة الاجتماعية يحافظ على السوق وعلى آليات السعر هو أمرٌ ذو أهمية أساسية. إن خلقت السوق نتيجة غير مرغوبة، مثل الإسكان السيء، فيجب على الحلول أن تكون محدودة بتمويل الشراء وليس عبر الخدمات العامة (كبرامج السكن الاجتماعي) أو عبر التشريعات القانونية (مثل التحكم بالإيجارات). فكما جادل فريدمان في الوقت الذي كان يدعي فيه أنّه يملك (نزعة مساواة قويّة)، فإنّ ما يرجع الناس سببه «عادة إلى الإسكان السيء– وبالتالي إلى آليات السوق– هو في حقيقة الأمر تكلفة اجتماعية هي الفقر». المبدأ العام إذاً هو الاعتماد بشكل كلي على «استخدام نظام التسعير من أجل توزيع البضائع... وتطبيق تغييرات في توزيع الدخل عند الضرورة».
الفقر على نطاق عالمي
تم نشر رؤية «تنافسية السوق الحرة» بحماس على طول الكوكب عبر المؤسسات الدولية. كان أحد مهندسي هذا التطور هو روبرت ماكنمارا وزير الدفاع في إدارة كينيدي وجونسون، والذي تمّ تعيينه رئيساً للبنك الدولي عام 1968 بعد لعبه دوراً حاسماً في تصعيد حرب فيتنام.
أثناء فترة رئاسته للبنك الدولي هندس، ماكنمارا، إستراتيجية لمكافحة الفقر مختلفة بشكل جذري عن الرؤى السابقة لها. فقد رأى بأنّه يمكن للفقر أن يكون جزءاً متكاملاً من إستراتيجية البنك الدولي إن لم يتم التركيز على إعادة التوزيع بحد ذاتها، بل على «مساعدة الفقراء لإثراء إمكاناتهم الإنتاجية». قال موين بأنّه: «تمّت عولمة العدالة الاجتماعية وتقليصها لأدنى حد... بحيث تمّ تفضيل إنشاء الأرضية التي (لا تسمح بغرق أي أحد)». كان التعارض مع أهداف المساواة التي نادى بها قادة ما بعد الحقبة الاستعمارية بشكل شديد.
لقد ترافق في واقع الأمر تطبيق سياسات «مكافحة الفقر» هذه مع خطط «التعديل الهيكلي» ودعا إلى خصخصة الخدمات العامة التي كان ينظر إليها قبل عقود من ذلك فقط على أنّها ذات بعد أساسي من أجل مجتمع أكثر عدالة. ومن هنا فصاعداً لن تعود العدالة الاجتماعية تعني نوعاً من الحماية ضدّ اللامساواة التي تولدها السوق الحرّة بل بوصفها تدخلاً يهدف إلى تمكين الجميع من الاشتراك فيها. وعليه فقد عمل الكفاح ضدّ الفقر بشكل رئيسي كسياسة لإدارة اللامساواة المتزايدة، وذلك بدلاً من محاولة وضع حدود لهذه اللامساواة. ولهذا فليس من المفاجئ أن أصبحت هذه السياسة الاجتماعية هي المميزة لحقبة النيوليبرالية المعاصرة.
إعادة اكتشاف اللامساواة
إنّ نجاح شعار «99%» قد غيّر المزاج وحاز على اهتمام العامّة، ليخلق الظروف الملائمة للذهول من اللامساواة. لكن وكما قال راموس بينتو: لم يشر هذا النجاح إلى الصدع الذي حدث عند التركيز على المجالات الاقتصادية والكميّة للامساواة. بل على العكس من ذلك ففي حين أنّ التطرق الجديد للامساواة يمثّل تطوراً على التركيز السابق على الفقر، فهي لا تزال تضيّق أفقنا على «المساهمات الفردية» وعلى «علاقتها مع إمكانات حركة الدخل»، وذلك عوضاً عن التطلع إلى علاقات وتصنيفات أكثر تسييساً. لا يزال النقاش عالقاً عند التطلّع إلى «الآثار بدلاً من البحث عن الأسباب».
سيختلف هذا العالم بشكل جذري عن الذي وصلت فيه اللامساواة إلى هذا الحد إذا ما قمنا بنزع التسليع وإعادة دمقرطة المنتجات، مثل: الرعاية الصحيّة والتعليم والنقل العام والطاقة وما خلافه. إنّه العالم الذي سيضمن الوصول إلى أهمّ مجالات وجودنا وسيقلص الاعتماد على السوق، وبالتالي سيهاجم المصدر الذي ولّد اللامساواة في المقام الأول. لقد كان هذا المشروع حقيقياً لفترة طويلة من الزمن وليس مجرّد أفكار طوباوية. فبالنسبة حتّى لأكثر المصلحين اعتدالاً لم تكن السياسة التقدمية تدور فقط حول تحسين الظروف المادية للعمال، بل الأكثر أهمية أنّها دارت حول تزويدهم بالأمل بمجتمع أكثر إنسانية وأكثر ديمقراطية.
قد يتساءل المرء عن السبب الذي يجعلنا نطلب أكثر من تقليص اللامساواة في الدخل في الوقت الذي يبدو حتّى هذا الأمر مستحيل المنال، لكن ولأنّ إيديولوجيّة «نهاية التاريخ» قد عادت بوقاحة، وذلك بشكل أساسي على هيئة الميل لكره الأجانب والتطرف يميناً، فإنّ على اليسار أن يتجاوز هذه النظرة ضيقة الأفق للالتزام بالمساواة في الدخل، وأن يدعو لشكل عالمٍ أكثر جرأة يتخطى من خلاله طوباويات السوق. إنّ قوّة «الأفكار الكبرى» هي أنّها لا تهدف ببساطة لإعادة توزيع بعض البطاقات، بل في كونها تريد تغيير قواعد اللعبة من أساسها.