عن أوكرانيا التي «كتفتها» المؤسسات الدولية
يلعب التمويل الدولي دوراً هاماً في الصراع الحالي في أوكرانيا على الرغم من غياب هذا الدور عن عناوين وسائل الإعلام التي تغطي الأحداث الجارية فيها.
في أواخر عام 2013، تصاعدت حدة الصراع بين الأوكرانيين المؤيدين للاتحاد الأوروبي والأوكرانيين المؤيدين لعلاقات جيدة مع روسيا، حتى بلغت مستويات عنيفة، مما أدى إلى رحيل الرئيس، فيكتور يانوكوفيتش، في شباط عام 2014، وأجج نيران إحدى أكبر المواجهات بين الشرق والغرب منذ الحرب الباردة.
من العوامل الرئيسية التي تدخلت في الأزمة الأوكرانية والتي أدت إلى انطلاق احتجاجات دامية، كان إقصاء يانوكوفيتش من منصبه بسبب رفضه لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي كان من شأنها أن تفتح أبواب التجارة على مصراعيها وتزيد من تبعية أوكرانيا للكتلة الأوروبية.
هذه الإتفاقية كانت مربوطة بقرض بمبلغ 17 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. ولكن بدلاً من ذلك، اختار يانوكوفيتش حزمة مساعدات روسية بقيمة 15 مليار دولار بالإضافة إلى خصم بنسبة 33% على الغاز الطبيعي الروسي.
ثم تغيرت العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية بسرعة في ظل الحكومة المؤيدة للاتحاد الأوروبي التي تشكلت في نهاية شباط 2014، والتي قبلت حزمة مالية من صندوق النقد الدولي بملايين الدولارات في أيار 2014.
وهنا، عند إعلانه عن برنامج مساعدات بقيمة 3.5 مليار دولار يوم 22 أيار، أشاد رئيس البنك الدولي، جيم يونغ كيم، بالسلطات الأوكرانية لوضع برنامج شامل للإصلاحات والتزامها بتنفيذه بدعم من مجموعة البنك الدولي.
لكنه لم يذكر الشروط الليبرالية الجديدة التي فرضها البنك الدولي لإقراض المال، ومن بينها أن تحد الحكومة من سلطتها الذاتية عن طريق إزالة القيود التي «تعيق المنافسة»، والحد من رقابة الدولة على الأنشطة الاقتصادية.
هذا الاندفاع لتقديم حزم مساعدات جديدة إلى البلاد تحت ظل الحكومة الجديدة، والذي يتماشى مع أجندة الليبرالية الجديدة، كان يعتبر بمثابة مكافأة من المؤسستين (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي).
كذلك، تشكل الرهانات حول القطاع الزراعي الواسع النطاق في أوكرانيا- وهي ثالث أكبر مصدر للذرة وخامس أكبر مصدر للقمح في العالم- عاملاً حاسماً جرى تجاهله. فبحقولها الوافرة من التربة السوداء الخصبة التي تسمح بحجم عال من الإنتاج، تعد أوكرانيا سلة الغذاء لأوروبا.
في العقد الماضي، اتسم القطاع الزراعي بالتركيز المتزايد على الإنتاج في إطار الحيازات الزراعية الكبيرة جداً التي تستخدم نظم الزراعة المكثفة واسعة النطاق.
ليس من المستغرب إذن، وجود الشركات الأجنبية في القطاع الزراعي وحجم الحيازات الزراعية، وكلاهما ينمو بسرعة، بأكثر من 1.6 مليون هكتار لحساب الشركات الأجنبية للأغراض الزراعية في السنوات الأخيرة.
والآن الهدف هو وضع السياسات التي تفيد الشركات الغربية. ففي حين أن أوكرانيا لا تسمح باستخدام الكائنات المعدلة وراثياً في الزراعة، تتضمن المادة 404 من اتفاقية الاتحاد الأوروبي، والتي تتعلق بالزراعة، شرطاً لم يلتفت إليه أحد عموماً: أن يتعاون الطرفان على توسيع نطاق استخدام التكنولوجيات الحيوية.
والآن، نظراً للتناحر في أوكرانيا، وتدفق المستثمرين الأجانب في قطاع الزراعة، يصبح السؤال المهم هو ما إذا كانت نتائج البرنامج سوف تفيد أوكرانيا ومزارعيها من خلال تأمين حقوق ممتلكاتهم، أما أنها سوف تمهد الطريق أمام الشركات للحصول بسهولة أكبر على الملكية والأراضي.
وهكذا، من خلال تشجيع «إصلاحات» مثل تحرير أسواق البذور والأسمدة، يجبرون القطاع الزراعي في أوكرانيا على الانفتاح على مصراعيه أمام الشركات الأجنبية مثل «مونسانتو» و«دوبون».
كذلك يبدو أن أنشطة البنك الدولي وبرامج القروض والإصلاح في أوكرانيا تعمل نحو توسيع الحيازات الصناعية الكبيرة في الزراعة الأوكرانية المملوكة لجهات أجنبية.
هذا وفي خضم الاضطرابات الحالية، يضغط كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الآن لمزيد من «الإصلاحات» لتحسين مناخ الأعمال وزيادة الاستثمار الخاص.
وفي شهر آذار عام 2014، رحب رئيس الوزراء المؤقت السابق، أرنسينيج ياتسينيوك، بالإصلاحات الهيكلية الصارمة والمؤلمة كجزء من حزمة قروض البنك الدولي بقدر 17 مليار دولار، نافياً الحاجة إلى التفاوض بشأن أي شرط من الشروط.
«إصلاحات» التقشف هذه التي يفرضها صندوق النقد الدولي تؤثر على السياسات النقدية وسعر الصرف والقطاع المالي والسياسات المالية، وقطاع الطاقة، والحكم، ومناخ الأعمال. كما أن القرض هو أيضاً شرط مسبق للإفراج عن المزيد من الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
فإذا اعتمدت بشكل كامل، قد تؤدي هذه الإصلاحات إلى زيادات كبيرة في أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، وزيادة بنسبة47-66% في معدلات ضريبة الدخل الشخصي، وزيادة بنسبة 50% في فواتير الغاز. ويخشى أن تأتي هذه التدابير بتأثير إجتماعي مدمر يؤدى إلى انهيار مستوى المعيشة وزيادة كبيرة في الفقر.
وعلى الرغم من أن أوكرانيا بدأت في تنفيذ «الإصلاحات» المواتية لقطاع الأعمال في عهد الرئيس يانوكوفيتش من خلال مشروع «مناخ الخدمات الاستثمارية وتبسيط إجراءات التجارة ونقل الملكية في أوكرانيا»، لم يقبل بتقييد البلاد بمعايير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وهكذا، بعد تنصيب حكومة موالية للغرب، تم التعجيل بتنفيذ عملية التكيف الهيكلي التي تقودها المؤسسات الدولية جنباً إلى جنب مع زيادة في الاستثمار الأجنبي، بغية تحقيق المزيد من التوسع في مجال الاستحواذ واسع النطاق على الأراضي الزراعية من قبل الشركات الأجنبية والمزيد من نفوذها على الزراعة في البلاد.
تفيد تجربة برامج التكيف الهيكلي في جميع أنحاء العالم النامي أن ذلك سيزيد من السيطرة الأجنبية على الاقتصاد الأوكراني، فضلاً عن زيادة الفقر وعدم المساواة.
وهكذا يصبح من غير الواضح كيف سيؤدي تأهب القوى الغربية لفرض عقوبات على روسيا لما تعتبره تجاوزات في أوكرانيا، وكذلك هذا البرنامج والشروط التي فرضها البنك الدولي. كيف سيؤدي إلي تحسين مستويات معيشة الأوكرانيين وبناء مستقبل اقتصادي مستدام؟
فريدريك موسو:
أستاذ الإدارة السياسية بمعهد أوكلاند، والمؤلف المشارك لتقرير «السير على الجانب الغربي: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في صراع أوكرانيا».