أزمات التعليم ليست بعيدة عن العالم الغربي
عادت بيتسي ديفوس - وهي الشخص الأقل احتراماً بين المحتالين والمليارديرية الذين يؤلفون إدارة ترامب- إلى موضوعها المفضل أثناء مناقشة حديثة مع مستثمري التكنولوجيا و«روّاد أعمال خدمات التعليم». إذ أعملت كلّ من شركات «آبل» و«آبر» و«أيربنب» سحرها التخريبي في المجال تلو الآخر، فلماذا لا يتمّ تخريب مؤسساتنا العامّة بالمثل؟ سألت ديفوس الحضور: «من هو الذي يستطيع أن يسحب البطاقة الرابحة؟».
بقلم: جنيفر بيركشاير
تعريب: عروة درويش
طالما أنّ المدارس الوطنية تعادل هواتف جدران المطبخ الدوارة أو سيارات الأجرة التي لم تأتِ، فقد رغبت ديفوس بإعلام الحضور بأنّها تملك في يدها الحلّ السريع: إنّه «اختيار المدرسة». تكمن الطريقة التي سنوقف فيها توعكنا التعليمي مرّة واحدة وإلى الأبد في تحويل الأسلوب الذي نفكر فيه حول التعليم إلى التركيز «على الطلاب بدلاً من الأبنية. فطالما أنّ الطفل يتعلم، فلن يكون مهماً المكان الذي يتعلم به». لقد رأت ديفوس بأنّه حتى أفضل المدارس لن تكون «ملائمة» بشكل مناسب للأولاد: «فإن لم تلبي المدارس احتياجات الولد الخاصة، فهي تخذل هذا الولد إذاً، وهذه هي الحقيقة البسيطة».
تستتر رؤية نيوليبرالية متطرفة خلف الحديث التكنولوجي الشعبي، رؤية تتجذر في ولاية تلو الأخرى. إنّ إزالة التعليم من القطّاع العام هو الهدف الأقصى للمشروع الذي تتصدّر واجهته ديفوس الآن. تمثّل هذه الأبنية التي تتحدث عنها بازدراء، وبذمّ «الوضع القائم» المتخلف عن الركب، كامل بنية التعليم العام، وبشكل أهم: السيطرة الديمقراطية عليه.
إضعاف ذلك هو شرطٌ أساسي للوصول إلى أرض الخصخصة الموعودة. تقف هيئات المدارس ذات الوزن الثقيل في طريق الوصول إلى هناك، وكذلك تفعل رابطات المشرفين والأهل المربين ونقابات المعلمين، والنقابات تأتي في المقدمة.
ليس تحرير الأسواق سوى جزءاً من الرؤية. فالسيطرة على عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال، وشبه احتكار النظام المميز الذي يجمع بين العلمانية وبين ما يصفه التحرريون باليسارية، هما جائزتان إضافيتان. ولن يكون من الخطأ جني المال أثناء ذلك إن أمكن الأمر. وتوحد جهود ديفوس لخصخصة التعليم العام الساعين للربح مع رجال الدين. دعونا نلقي نظرة على معارك هذه الجهود الكبرى:
العودة إلى المستقبل
بعد أن مررت أريزونا أول برنامج قسائم كلّي عام في البلاد هذا الربيع، لتسمح للأهل باستخدام الأموال العامّة المخصصة لتمويل التعليم لتسديد نفقات «خيارات التعليم الانتقائي»، والذي يتضمن أقساط المدارس الخاصّة، كانت ديبي ليسكو، سناتور الولاية التي رعت هذا التشريع، متحمسة.
قالت ليسكو لصحيفة النيويورك تايمز: «لقد تغيرت الرياح على المستوى الوطني في القاعدة. جميع الأطفال مختلفون، وهم يتعلمون في بيئات تعليمية مختلفة. لا يجب علينا أن نجبرهم أن يتبعوا ذات النموذج التعليمي الذي استخدمناه خلال المائة والخمسين عاماً الماضية». كانت ديفوس سريعة بوضع ثقلها في الموافقة والتهليل للولاية ولحاكمتها الجمهورية من أجل «النصر الذي حققته لصالح الأولاد».
وذلك يعني بشكل ضمني بطبيعة الحال بأنّ يافعي أريزونا سوف يخطون بجرأة نحو المستقبل، وهم مسلحين ببطاقات دين التعليم المحمّلة مسبقاً. لكن رغم الحديث عن عالم التقانة والخلخلة والابتكار وتحفيز التعلم التكنولوجي الذاتي، فإنّ رياح التغيير تهبّ للوراء.
عد قرناً ونصف وسوف تحطّ بالكاد في زمن هوراس مان، وهو الذي فتح الطريق لتعليم علماني كلّي على الطريقة البروسية، والذي يدفع العامّة نفقاته بأنفسهم، وهو أمر ضايق الأثرياء حتّى في حينه. لقد تنبؤوا بقدوم ضرائب أعلى، ناهيك عن كونهم يرسلون أولادهم إلى مدارس خاصّة. لم يستطع الأثرياء أن يتقبلوا تغطية نفقات المدارس العامّة عبر السنين، لكن لا يزال التحوّل البالغ 150 عاماً من العمر، من الأسرة كمركز التعليم إلى الدولة العلمانية، يترك مصدراً للضغينة في قلوبهم.
تقول كاثرين ستيورات، وهي مؤلفة كتاب «نادي الأخبار الجيدة» الذي يبحث جهود اليمين الديني في التسلل وتقويض التعليم العام: «هناك قسمٌ من عالم الإنجيليين المحافظين الذين لم يقبلوا أبداً بالتعليم العام كمؤسسة شرعية يمكن اتباعها. إنّهم ينظرون إلى التعليم العام على أنّه «علماني»، ولذلك يناصبونه العداء». تضيف ستيورات بأنّ السماح بتدفق المال العام إلى المدارس ذات البرامج الأيديولوجية والدينية المحافظة له منافعه الإضافية بالنسبة لديفوس وأمثالها: «فهي تُضعف ما يسمّى بمدارس الحكومة التي تميل إلى التحرر والعلمانية»».
يتزايد عدد الأهل الذين يدرّسون أطفالهم في المنزل، لأسباب دينية أو أخلاقية، بشكل كبير. ويهدف ظهور قوانين اختيار المدرسة في الولاية تلو الولاية إلى توسيع سطوتها أكثر فأكثر. يسمح برنامج قسائم أريزونا، والذي وصفته شبكة تلفاز «العائلة الأمريكية» الأصولية بأنّه «تمويلٌ للأفراد وليس للجماهير»، يسمح للأهل باستخدام التمويل العام لتسديد نفقات المدارس المنزلية.
هناك أيضاً مشروع قانون يقترب من السريان في نيوهامشر، وهي الولاية الذي يشغل رجل الأعمال الجمهوري فرانك إيدلبلوت منصب مفوض التعليم فيها، وهو الذي درّس أولاده السبعة في المنزل. لقد تمّ تكليف إيدلبلوت من قبل حاكم نيوهامشر الجمهوري بإدخال «الابتكار» إلى نظام التعليم العام في الولاية، وهو الشيء الذي أعلن بأنّه سيقوم به من خلال «تفكيك النظام بحيث يتمّ معاملة كلّ طفل على أنّه كيان فريد بحدّ ذاته».
تكمن المفارقة في أنّ الكراهية للتعليم العامّ الديمقراطي، وهي القضية التي انطلقت بشكل جدي في وقت قريب من وقت إنشاء مدارس مان العامّة، وجدت طريقها للحياة بفضل خطاب «الشخصنة» المهدئ لشركات التقنية الضخمة. بما أنّ كلّ طفل هو جزء صغير مدعّم برمجياً، فهل المدارس العامّة (أو الضرائب التي ندفعها لأجلها أو للمدرسين الذين يشكلون كوادرها أو للنقابات التي ينتمون إليها) ضرورية على الإطلاق؟
قبل التعليم المشترك
لاحظت جين ماير، في ملف حديث على صحيفة النيويوركر عن روبرت ميرسر وابنته، وهما المتبرعان المحافظان الكبيران واللذان غذيا وقادا شعبوية جمعية «غالت-رايت»، بأنّ الاستثمار السياسي الكبير الأول لميرسر قد ذهب إلى سياسيّ غامض من أوريغون يدعى آرثر روبنسون. يُعرف عن روبنسون في أوريغون بأنّه كيميائي «حفلة الشاي» غريب الأطوار. كما أنّه مرشح جمهوري دائم للكونغرس، يحصل على عطاءات ميرسر بشكل مستمر.
يشكّل آرثر روبنسون اسماً مرموقاً في الرعاية المنزلية في «دوائر التعليم المنزلي المسيحية». يُرشد منهج روبنسون للتعليم الذاتي، والذي تمّ تطويره من قبل روبنسون وأولاده الستّة الذين درسوا في المنزل، الأولاد إلى أن «يعلّموا أنفسهم ويحصّلوا معرفة عليا بالطريقة التي تعلّم بها معظم المواطنين الأمريكيين في الأيام التي سبقت التعليم المشترك».
عرض روبنسون وجهات نظره بشأن التعليم أثناء سعيه للكونغرس عام 2016، ليطلق منصة تعليم تدعى «خطّة تعليم الفن!». لقد دعا إلى برنامج قسائم على مستوى البلاد لتزويد كلّ طالب في الولايات المتحدة «بالحرية والموارد كي يلتحق بأيّة مدرسة يريدها في أمتنا، سواء خاصّة أم عامّة».
كان هناك أيضاً خطّة جريئة في الكونغرس لإغلاق مدارس واشنطن لمدّة ثلاثة أشهر، وهي المدّة الكافية لطرد «النقابات البالية» ولخلق نموذجٍ يكون فيه الطلبة والأهل زبائن بدلاً من كونهم «خدم أذلاء لإدارات المدارس».
خسر روبنسون الانتخابات، وهي محاولته الرابعة أمام الديمقراطي بيتر ديفازيو، وهو الذي يشغل المنصب منذ ثلاثين عاماً. لكن يمكن استشعار نداءه لتحرير اليافعين من «المدارس ذات التصميم النقابي والبيروقراطي والسياسي» في خطاب بيتسي ديفوس الحديث.
ويُعرف أكثر عن آل ميرسر رعايتهم ستيف بانون، ومن ضمنها تمويل شبكة أخبار «بريتبارت» و«مؤسسة المسؤولية الحكومية»، والتي كُرست سابقاً لمهاجمة هيلاري كلينتون من اليمين. تعاونت ريبيكا ميرسر، التي درّست أطفالها الأربعة في المنزل، في العام الماضي مع بانون مرّة أخرى: «استعادة نيويورك»، وهي المنظمة التي «تؤمن بشدّة في مساعدة كلّ مواطن على استعادة ملكيته للحكومة». تقوم المنظمة بهدفها عن طريق استهداف كلّ مدرسة عامّة ودار بلدية في الولاية بطلبات «قانون حرية المعلومات» وبدعاوى قانونية تسمح للمواطنين بأن يدركوا بأنفسهم ما يدركه الأثرياء منذ وقت طويل: الضرائب هي أمرٌ مهين بلا سدى.
وفي حين أنّ نسخة بانون من القومية الاقتصادية ليس لديها الكثير لتقوله عن التعليم العام (باستثناء أنّ المهاجرين غير المسجلين لا يجب أن يتلقوه)، فإنّ التداخل بين أهدافه لتدمير الدولة الإدارية وبين تفكيك مؤسسات التعليم العام التي تسعى إليه ديفوس، وفي أماكن أخرى، يبدو واضحاً. فتجويع الوحش سيؤدي لزوماً إلى تفكيك المدراس.
الجامعة والجنّة
«الجامعة والجنّة» هو الهدف المعلن لمدرسة «فلوريدا الكاثوليكية» التي قالته ديفوس بشكل غير رسمي أثناء إحدى أولى زياراتها الرسمية إلى المدارس كأرفع مسؤولة تعليم وطنية. كان يهدف وفد النجوم المُرسل إلى كلية سانت أندرو في أورلاندو، والذي ضمّ دونالد ترامب وجارد كوشنر وإيفانكا ترامب، إلى عرض برنامج فلوريدا للائتمان الضريبي بقيمة 700 مليون دولار. وهي الفكرة الأكثر ارتباطاً بغسيل الأموال منها بالهبات الخيرية.
تحظر فلوريدا، مثلها مثل الكثير من الولايات، استخدام المال العام في الدفع للمؤسسات الدينية، ومن بينها المدارس. وتلعب برامج مِنح الائتمان الضريبي دور الحلّ المثالي لهذه المعضلة، محفزة المتبرعين الأثرياء والشركات كي يوجهوا أموال ضرائبهم بشكل مباشر إلى المدارس الدينية عبر «منظمات غير ربحية» تلعب دور الوسيط.
تنتشر برامج مِنح الائتمان الضريبي مثل «برنامج فلوريدا» من ولاية لأخرى. فقد سنّت سبع عشرة ولاية نسخاً مشابهة منه، بينما تطفو أصناف جديدة على السطح كلّ أسبوع. تشكّل هذه «القسائم الجديدة» الحلّ الجديد لنفس المشكلة القديمة التي عصفت بالحشد المناهض للمدارس العامّة منذ أيام مان. فها هي أخيراً فرصة للأثرياء والشركات الذين لا يستمتعون بدفع الضرائب، وخاصّة للمؤسسات العامّة، لكي يحققوا مكاسب على حساب نظام التعليم العام في الولايات. وليملك المستفيدون اليافعون بديلاً عن «التجانس» العلماني والاشتراكي.
يمكن لطلبة الولاية المشمسة الآن الذهاب إلى «شبكة تالس الأكاديمية» من المدارس «الكلاسيكية»، والتي أسسها فون ميسس، وهو رجل الأعمال التحرري الذي شدّد على أهمية اقتصاد تحركه الأسواق. لكن لنحصي أطفال فلوريدا الذين درسوا العلوم الرديئة من بين القلّة المحظوظين. فمن بين المائة ألف طالب الذين يذهبون إلى مدارس خاصّة الآن ضمن برنامج مِنح الائتمان الضريبي، فإنّ 83% منهم في مدارس دينية، حيث يدرسون الخلق بدل التطور، ويوافقون على الالتزام بمبادئ الكتاب المقدس مثل ألّا تكون مثلياً. ويصعب القول إن كان طلّاب هذا البرنامج يحققون النجاح أم لا، فمدارس فلوريدا الخاصّة معفاة من اختبارات الولاية السنوية.
لقد تمّ توسيع برنامج فلوريدا من جديد، وهي أولوية بالنسبة للمتحدث باسم المجلس. لقد أفتتح ذلك المحافظ الدورة التشريعية بنعت نقابات معلمي الولاية بأنّهم «شياطين». لكنّ الهدف الحقيقي في فلوريدا هو تعميم القسائم، وذلك لتحرير يافعي الولاية أخيراً من إملاءات المخططين المركزيين، وتحفيز أهلهم «للسعي لاستخدام دولاراتهم بشكل أمثل» في الإنفاق على التعليم.
الغطاء الديمقراطي
في حين أنّ قضية «اختيار المدرسة» لها زخمٌ لا يمكن إنكاره، لكنّها أيضاً تواجه رياح معاكسة شديدة. فقد انفجرت داخلياً اقتراحات القسائم التي ألحقت أضراراً جسيمة بالمدارس الحكومية هذا الربيع في معاقل الحزب الجمهوري في ولايتي تكساس وأركنساس، حيث لم يكفي حتّى تأثير عائلة والتون، وهم مالكو سلسلة والمارت وأوّل عائلة أمريكية من خصخصة المدارس، للتغلب على ائتلاف المعارضين المتنوع. أشار المشرعون الجمهوريون في كلتا الولايتين إلى أنّ المجتمعات سوف تتفكك من دون المدارس. ضمّوا قواهم إلى «الوضع القائم» الذي لم يتأثر بعد: فلم تعُد تحذيرات مجموعات التعليم العام حول خصخصة المدارس تبدو بعيدة الحدوث.
وعلى الرغم من هذه الانتكاسات، فإن جهود ديفوس وحلفائها الرامية إلى تفكيك التعليم العام تمّ دعمها من قبل المصححين الديمقراطيين الذين أمضوا العقدين الماضيين في فعل ذات الشيء. فالمصححون «التقدميون» هم الذين قادوا الحملة لإقناع أولياء الأمور ودافعي الضرائب بأنّه لا فرق جوهري بين مدرسة عامة وبين مدرسة يديرها القطاع الخاص. فالآباء لا يهتمون بمن يدير مدارسهم طالما أنها جيدة، وهذا هو المعيار الذي تحدّث عنه المصححون، جنبا إلى جنب مع التذكير بأن «المدارس المستأجرة هي مدارس العامة».
فقبل أن يسمع أيّ شخص خارج ميشيغان عن بيتسي ديفوس، انضمّ الديمقراطيون أمثال «دوايت» بحماس إلى الحرب ضدّ نقابات المعلمين. والديموقراطيون هم الذين ضغطوا لإعادة تعريف التعليم العام في الولاية تلو الأخرى على أنّه خيار فردي يمارسه الأهل في سوق تنافسية بدلاً من أن يكون جماعياً، ولصالح المجتمع.
لقد تمّ إضفاء الشرعية على «اختيار المدرسة»، ولم يتمّ ذلك عن طريق ديفوس ورفاقها، ولكن عن طريق أمثال كوري بوكر ورام ايمانويل وغيرهم من الديمقراطيين ذوي التفكير التصحيحي. إذا كان إنقاذ التعليم العام هو مجال المقاومة الأساسي، فسيتعيّن على الديمقراطيين الانضمام إلى المعركة أو أنّ يتمّ إزاحتهم جانباً.