كيف دمّر الغرب المقاومة اليونانيّة!
«أنت مسؤولٌ عن الحفاظ على النظام في أثينا وعن تدمير مجموعتي (جبهة التحرير الوطنيّة EAM) و (جيش التحرير اليوناني الشعبي ELAS) اللتان تحاولان الوصول إلى المدينة. أنت مخوّل بإصدار القوانين التي تجدها مناسبة من أجل السيطرة بإحكام على الشوارع أو من أجل أن تضمّ ما يحلو لك من الأشخاص المتوحشين... سيكون أمراً جيداً بكلّ تأكيد إن استعنت بتعزيزات سلطويّة من الحكومة المحليّة... بأيّ حال من الأحوال، لا تترددّ بالتصرّف على أساس أنّك في مدينة مستعمرة يحاول المتمردون المحليون التقدّم فيها... علينا أن نستوعب ونسيطر على أثينا. سيكون أمراً عظيماً منك إن نجحت في ذلك دون حمام دم، لكن أرق الدماء إن كان ذلك ضرورياً».
تعريب وإعداد: عروة درويش
أوردت صحيفة اللوموند هذه الفقرة من برقيّة أرسلها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل إلى قائد قواته في اليونان عام 1944. لم تكن القوّات النازيّة قد هُزمت بعد، وكانت قوات الحلفاء تتقدّم ببطء في إيطاليا وتجبر النازيين على التراجع. لكنّ هذه البرقيّة التي تريد تدمير (EAM وELAS) لم تكن تستهدف قوّات متعاملة مع النازيين، فهذه الجماعة كانت تقاوم المحتلين الألمان بشكل ضارٍ منذ ثلاثة أعوام. لكنّ تقدّم المقاومة اليونانيّة التي كانت مؤلفة من أحزاب اشتراكيّة وشيوعيّة قد دقّ ناقوس الخطر في وزارة الخارجية البريطانيّة. لقد نظرت بريطانيا إلى الملكيّة اليونانيّة بوصفها الوحيدة القادرة على المحافظة على الهيمنة البريطانية في اليونان.
تشكّلت جبهة التحرير الوطنيّة في أيلول/سبتمبر عام 1941. نظمت المظاهرات في المدن الكبرى، وفي ربيع 1942 انتقلت لتشكيل وحدات مقاتلة متمردة بقيادة جيش الشعب ELAS. وقد أرسلت بريطانيا في نفس ذلك الوقت وحدة العمليات الخاصّة في جيشها من أجل القيام بعمليات تخريبيّة خلف خطوط العدو بالتعاون مع وحدات المقاومة المحليّة. وذكر المقال محاولة البريطانيين الحثيثة خلال سنوات الحرب، تشكيل منظمات مقاومة تنافس EAM وELAS في اليونان، لكنّها فشلت في ذلك سواء من الناحية السياسيّة، رغم وجود الملكيّة اليونانية في المنفى في لندن، وكذلك من الناحية العسكريّة، حيث كانت الحركة القائمة قد اكتسبت الكثير من الخبرات والشعبيّة بين الأهالي. واضطرّ هذا الأمر البريطانيين للتعامل مع الحركة بجديّة وقبول التباحث مع مندوبيها الرسميين الموجودين في القاهرة، رغم عدم اعترافها بالحكومة الملكيّة في لندن.
لكن في النصف الثاني من عام 1943، تبخرت آمال تشرشل بإجراء إنزال للحلفاء في اليونان، وكان تقدّم الجيش الأحمر إلى ما بعد حدود الاتحاد السوفييتي أمراً حتمياً، فما كان من تشرشل إلّا أن تولّى الأمور مباشرة رغم مشورة معاونيه له بالتمهّل. فقام بإنهاء أيّ مفاوضات وتنسيق قائمين، وأنهى التعاون مع المندوبين.
ومنذ ذلك الحين، باتت مهمّة البريطانيين هي تدمير جيش التحرير الشعبي بكلّ الوسائل الممكنة. وقد حاولوا في هذا السياق رشوة المؤيدين للحركة من أجل الانشقاق عنها، ولكنّ الأمر لم يجلب الكثير من النجاح. وموّلوا كذلك منظمات صغيرة تحاول منافسة جبهة التحرير الوطنيّة، مثل المنظمة المسمّاة «الوطنيين»، والتي كانت متعاونة مع الألمان النازيين.
وكما تقول الصحيفة: «شاركت الميليشيات التي دعمتها بريطانيا مالياً وتنظيمياً في العمليات التي قامت بها القوات النازيّة، سواء ارتكاب المذابح وإحراق القرى وقتال جبهة التحرير. شاركت هذه الميليشيات في تطويق أحياء مدن كاملة في الليل، وكانوا يخرجون مؤيدي جبهة التحرير بناء على معلومات من المخبرين التابعين لهم، ثمّ يقومون بإطلاق النار عليهم. لقد سمحت العمليّة المزدوجة للبريطانيين بزرع بذور الحرب الأهليّة منذ شتاء 1943-1944».
لكن رغم كلّ هذا، فقد استطاعت الجبهة والجيش الشعبي النجاح في تحرير جزء كبير من البلاد. وقد أدّت هذه الانتصارات إلى تحميس ممثلي القوّات العسكريّة في القاهرة، والذين طالبو بسرعة بتضمين المقاومة في حكومة المنفى. وقد ردّ البريطانيون بقمعهم بلا هوادة، فأرسلوهم إلى معسكر اعتقال في إفريقيا، وهيئوا مكانهم حرساً ملكيّاً جاهزاً للعودة مع الملك إلى اليونان بعد التحرير.
لكنّ القضاء على المقاومة في الخارج لم يعني التخلّص منه في اليونان نفسها. ولهذا حضّر البريطانيون مناورة سياسيّة استطاعت الإيقاع بهم في المؤتمر الذي عقد في لبنان عام 1944. فقد وافقوا على الدخول في حكومة وحدة وطنيّة، ممثلين بأقليّة صغيرة فقط، بقيادة أحد تابعي بريطانيا: جورج باباندرو. وقد وصل الأمر في الأشهر اللاحقة بالجبهة حدّ الاعتراف بسلطة الحاكم العسكري البريطاني: رونالد سكوبي، الذي وصل إلى اليونان بعد التحرير.
بعد التحرير:
بعد هزيمة النازيين في الحرب، لم يتمّ عقد محاكمات مع المتعاونين معهم أو مع الميليشيات التي عملت لصالحهم. وتمّ احتجاز الكتائب الأمنيّة التي كانت متعاونة مع النازيين في ثكناتهم، ولكنّهم تنعموا بحياة جيدة وبتدريبات مستمرّة. وبدا بعد كلّ هذه التحركات عدم صوابيّة قرارات الجبهة في الاشتراك في الحكومة، فاستقال وزرائها.
في 3 كانون الأول 1944، انطلقت مظاهرة في ساحة سينتغاما مطالبة باستقالة باباندرو وبتشكيل حكومة جديدة، لكنّ الشرطة فتحت النار على المتظاهرين العزّل وأردت أكثر من عشرين قتيلاً وأكثر من مئة جريح. أثارت المذبحة هياجاً بين سكّان أثينا، فرأى البريطانيون فيها فرصة سانحة لكسر المقاومة. وتمّ في سبيل ذلك نقل الجيش والطائرات والمزيد من الرجال (7500 عسكري) من إيطاليا إلى اليونان. وتمّ رفض الاقتراح التي قدمته جبهة التحرير الوطنيّة للتفاوض.
وكما اقتبست الصحيفة عن تشرشل تعليقه على اقتراح المفاوضات: «إنّ الهدف الواضح هو هزيمة جبهة التحرير الوطنيّة. يعتمد إنهاء القتال على تحقيق ذلك... وطالما أن الهدف لم يتحقق، فإنّنا بحاجة إلى الحزم والشدّة وليس للمودّة الطيبة».
ورغم التجهيز السيء والعتاد السيء وتكوينها بغالبيتها من اليافعين، فقد صمدت الجبهة في أثينا وفي بيرايوس لمدّة 33 يوماً أما نيران كلا القوات البريطانية والكتائب الأمنيّة اليونانيّة. ممّا دفع بتشرشل نفسه للمجيء إلى اليونان ليعلن وصايته نيابة عن الملك الذي كان لا يزال في لندن. وكما ذكرت الصحيفة: «كان الجيش الشعبي لا يزال حاضراً في بقيّة مناطق اليونان، لكنّ قادته لم يجرؤوا على فرض خوض حرب جديدة على السكان المنهكين: فقد كان هناك 1770 قرية محروقة، وأكثر من مليون شخص مشردين بلا سقف فوق رؤوسهم، وانخفض إنتاج القمح بنسبة 40%. ولم تكن مساعدات الحلفاء تمنح إلّا لمن يتعاون معهم. ولهذا أعلن الجيش الشعبي تسليم سلاحه في 12 شباط 1945».
لكن رغم هذا وبعد الانتخابات التي أجراها البريطانيون في آذار 1946، والتي لم تشارك فيها الجبهة أو القوى الديمقراطيّة عموماً، لم يستطع البريطانيون تحقيق استقرار أو نصر. ولم يكن أمام اليمين الذي حافظوا بشكل غير طبيعي على بقاءه في السلطة أن يبقى، فقد بدأ أعضاء الجبهة بالعودة للعمل المسلّح، وهذا أدّى بقيام الرئيس الأمريكي هاري ترومان في 12 آذار 1947 بالطلب إلى الكونغرس أن يمنحه التمويل الكافي من أجل «مساعدة» اليونان من أجل «إيقاف الشيوعيّة».
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني