المافيا الإيطاليّة-الأمريكيّة| أبطال السينما... وكلاء للرأسماليّة
«البلشفيّة تطرق الأبواب، ولا يمكننا تحمّل تركها تدخل... علينا أن نبقي الأمريكيين ككتلة واحدة آمنة غير ملوثة. علينا أن نبقي العمّال بعيدين عن الأدب الأحمر والحيل الحمراء. علينا أن نُشرف على بقاء عقولهم صحيحة» – آل كابوني.
تعريب: عروة درويش
من المهم، كما هو الحال دائماً في مثل هذه الظواهر، أن نتروّى وألّا نُرجع وجود أو طبيعة المافيا إلى الممارسات الرومانسيّة واللطيفة المتبقية من الحقبة الإقطاعيّة. إنّ دورهم الرجعي التام في إرهاب الفلاحين في «جنوب إيطاليا» والعمل كحرّاس لملّاك الأرض الكبار واضح ومثبت بشكل كافٍ. لكن في الحقبة الحديثة، لم تؤدّي العلاقات الرأسمالية إلى القضاء على المافيا كما قضت على غيرها من الأشياء من الحقبة الإقطاعيّة، بل قامت بتقوية عملياتها عوضاً عن ذلك.
لقد باتت نشاطاتهم في تجارة المخدرات وغيرها من النشاطات ذات صلة بسرعة بالسوق العالمية، وعملياتهم المتعلقة بالأرض والمضاربة في الإسكان وبحماية التجمعات الإجرامية، جميعها تخدم كأمثلة عن الدور التقليدي الذي لعبته المافيا كوسيط، بشكل جديد له مكانته في الحقبة الرأسمالية. ليس هناك فرق بين باليرمو ونيويورك. فمع الاختفاء البطيء لطبقة النخبة الزراعية، أصبحت المافيا وسيطاً للنخب الحاكمة الجديدة، ووسيطاً في أيّ مكان يجنى منه المال، سواء بشكل قانوني أو غير قانوني، ودائماً عبر تنقيل أنفسهم بين المنتجين وبين ما يحقق قيمة السلع.
بمعنى آخر، إنّهم يعملون الآن كوكلاء للطبقة الحاكمة. ليس بوصفهم ظاهرة اجتماعيّة مميزة، بل بوصفهم قوّة دافعة للرأسماليّة بمعنى أكثر تجريداً. يوضّح هذا من جهة مزجهم بين بنية أقرب للعشائريّة مع تركيز على مجالات الأعمال، ومن جهة أخرى الغموض الموروث للتبجّح بقانون الشرف الموروث للمافيا: «الأوميرتا omertà» وكما يصفهم لوبو، وكما تظهر أفلام المافيا بثبات وعلى نحو كبير من الجديّة، تحبّ المافيا أن تبني تصوراً عن نفسها بأنّها مرتبطة ببعضها بسبب قانون شرف قديم يطلب منهم إعالة المظلوم ومهاجمة القوي. فهم يرون أنفسهم غالباً ككاثوليكيين تقليديين طيبين، ويصرون بشدّة على فرض مبادئ دينهم، ومن بينها فوبيا-المثليين الموروثة والمقاربات الأسريّة البطريركيّة-الأبويّة.
لكن يستحيل فهم السبب الذي دفع بكلا صانعي ومشاهدي نمط أفلام المافيا أن يأخذوا بهذا الكلام. ففي الكتاب الكلاسيكي «ابتكار التقاليد» للمؤرخ هوبسباوم، يتبيّن بأنّه فكلما زاد ظهور المافيا المعاصرة كوكيل لرأس المال مرتكبة أكثر صيغ الرأسمالية عدائيّة وتردياً ممّا يمكن تخيله، كلّما تحمست المافيا لإظهار نفسها كمدافع عن القيم التقليديّة. وكما يلاحظ لوبو:
«هناك في هذه الإيديولوجيا درجة معينة من إقناع الذات، وكمّ كبير من الطموحات المغرورة، وكذلك كمٌّ أكبر من الدعاية المخصصة لمنازعة الواقع المختلف كليّاً في غالبيّة القضايا... إنّ الطمع والوحشيّة، كما تمّ توثيقه بشكل كافٍ في هذا الكتاب، هي سمات جوهريّة لمافيا الحاضر والماضي، والمافيا في كلا الزمانين كانت ولا تزال قادرة على ذبح الأبرياء، النساء والأطفال، من أجل الدفاع عن قانون الشرف الخاص بهم... يستمرّ رجال المافيا الصقليون-الأمريكيون والإيطاليون-الأمريكيون عموماً بالإعلان في العلن عن عدائهم للمخدرات كونها تدمّر الروابط الثقافيّة-الاجتماعية للمجتمع المحلي، وذلك رغم القبض عليهم مراراً متلبسين وهم يتاجرون بالمخدرات».
وبشكل مشابه، فإنّ هذا النوع من النفاق فيما يخصّ قانون الشرف، وهو الكذب والتحريف في أسّه، ينطبق كذلك على علاقة المافيا بالدولة. في الواقع، ليست المافيا مناهضة للدولة وليست حامية للمجتمعات المحليّة التقليديّة ضدّ التدخل الحكومي. إنّها وسيط بين الدولة والمواطنين لمصلحتها الخاصّة.
يبيّن تاريخ إيطاليا أثناء الحكم الفاشي أنّ لدى المافيا والفاشيّة الكثير من الأشياء التي يتفقان عليها. لم يكونا في الحقيقة مختلفان عن بعضهما البعض. وكان الكثير من شخصيات المافيا الرئيسيّة منخرطين في الميليشيات الفاشيّة الرسميّة، المناهضة لنشاطات المقاومة اليساريّة القائمة على حركات الفلاحين والعمّال. بعد الحرب العالميّة الثانية، شهد مسرح السياسة الإيطاليّة فساداً وتواطؤاً مستمراً بين المافيا وبين الشخصيات الحكوميّة. خاصّة، ولكن ليس بشكل حصري، بين أحزاب اليمين ويمين الوسط.
ولم تكن حملات الاعتقال العرضيّة والمتباعدة، التي يتم فيها اقتياد رجال المافيا إلى السجون، تعني سوى أنّ الدولة تنوي إبقاء المافيا حيث تنتمي: مطبقين لبرامج اليمين الإيطالي السياسي، لكن دون أن تكون قوّة مستقلة خارج نطاق سطوته. لقد أدّى هذا الأسلوب القمعي إلى إثارة غضب المافيا غالباً، ليقود بدوره في بعض الأحيان إلى شنّها لحرب على الدولة، لتكون المافيا هي الخاسرة على الدوام. لكن على العموم، قبلت المافيا الصفقة مع الدولة. وزاد هذا الأمر، ولم يُنقص، سطوة المافيا بواسطة إرهاب المنتجين وصغار الرأسماليين في جنوبي إيطاليا أثناء القرن العشرين.
وينسحب ذات الكلام على قارّة أمريكا الشماليّة، حيث تمّ إنشاء المافيا لتضلع بشكل فعّال بذات الدور، مثلما يحدث في أجزاء من كندا وفي مدن مثل نيويورك وبوسطن. في الولايات المتحدة، وهي حيث تمّت صياغة معظم الرواية الكلاسيكيّة عن المافيا، يتمّ إظهار المافيا باستمرار وكأنّهم زعماء الحرس الشعبي، كوسطاء سلطة يحمون مهاجري مجتمعات الإيطاليين-الأمريكيين من الإجرام القذر ومن التدخلات العنيفة لدولة البروتستانت الأنغلو-ساكسون البيض. وفي حين أنّ هناك بعض الأسس الحقيقيّة لهذه الادعاءات، فإنّها مضخمة لتدعيم أسطورة المافيا بوصفها حامية للمجتمعات التقليديّة.
تدافع العصابات عن نفسها على طول التاريخ الحديث بشكل إيديولوجي، ويشمل هذا العصابات في روسيا والمكسيك الحديثتين، وذلك عبر الادعاء بأنّها المصدر الحقيقي للنظام والعدالة في المجتمعات الفقيرة، وبأنّها تتخلّص من اللصوص القذرين ومن المقرضين الذين يفترسون السكان. لكن في الحقيقة، ما يعنيه هذا الأمر ليس القضاء على المجرمين الصغار، بل إدماجهم في فضاء المافيا.
فمثلما يحدث في أيّ مؤسسة أعمال رأسمالية، تسعى المافيا للتخلص من المنافسة وللحفاظ على الاحتكار: أي احتكار العنف الطفيلي ضدّ العمال وضدّ الرأسماليين الصغار. إنّه لتناقض سياسي جوهري، ولخطأ، أن نأخذ التبرير الإيديولوجي لسعيهم نحو الاحتكار كما يسوقونه. فهذا التبرير يماثل ادعاء الطبقة الرأسمالية أنّه من غير احتكارهم لقواعد الاقتصاد، لا يمكن لعملية الإنتاج أن تتم. إنّ المافيا مستعدة، وملائمة من حيث أساسها، وضمن المنظومة الرأسمالية، أن تتعاون في نشاطاتها مع الدولة متى لائمها ذلك.
وعلى النقيض لأسطورة قانون شرف الأوميرتا الحديدي، يهرع رجال المافيا في الواقع لخيانة بعضهم البعض ما أن يتم اعتقالهم، من أجل الحصول على أحكام مخففة. ليس هناك مبادئ سياسية هنا، فقط تشكيل طبقة حكم صغيرة تافهة ضمن المنظومة الرأسمالية الأكبر. المافيا أصغر من أن تشكّل زعماء حرس شعبي، لأنّها لا توفر أيّ خدمات تتجاوز القضاء على منافسيها. لكنّها كذلك أكثر من مجرّد عصابات، لأنّها تتوسط حكم رأس المال عبر العنف: وتحديداً في الحالات التي يكون فيها رأس المال بحاجة لها لإرهاب العمّال كي يقبلوا بالاستغلال الواقع عليهم.
العامل الحاسم هنا هو عداء المافيا لنشاطات منظمات العمّال والفلاحين المستقلة، ما لم يكن بالإمكان إدماجها في برنامج فرديّ ذو صبغة معنويّة فقط. وعليه فإنّ التواطؤ بين المافيا وأحزاب اليمين والوسط والكنيسة الكاثوليكيّة (من بين آخرين) هو تحالف ضدّ اليسار، وتحديداً ضدّ النقابيين والشيوعيين. هذا هو المعنى الحقيقي للمافيا اليوم، ومعناها في كامل الحقبة الرأسمالية كذلك. ولا يقتصر الأمر على الحالة الإيطالية: فقولنا ينسحب بشكل كبير على ائتلاف المخدرات المكسيكي وعلى المافيا الروسيّة.
تبعاً لكل ما قيل: إذا ما قارنّا بين التعامل مع المافيا والتعامل مع كو-كلوكس-كلان «ك.ك.ك» في السينما الأمريكيّة المعاصرة، فسنجد فرقاً هائلاً. فقد كان لمنظمة ك.ك.ك، وهي المنظمة البروتستانتيّة، ذات دور المافيا تقريباً. فقد حمت مصالح ملاّك الأرض الجنوبيين من منظمات العمّال المدينيين والريفيين المستقلة المحتملة في مناطقهم. ومثلما تفعل المافيا، ادعى أعضاء ك.ك.ك بأنّهم مرتبطون مع بعضهم بقانون شرف تقليدي مهذب على شاكلة ما يظهر في فيلم «ذهب مع الريح». وقد لعبوا أيضاً دور الوسيط بين الدولة والمجتمع عبر إرهاب المنتجين، وخدموا في نهاية المطاف هدف الحفاظ على نظام معيّن من الملكيّة، يلائم نخبة تاريخيّة صغيرة. ويندرج البعد العنصري في أفعالهم ضمن ذلك أيضاً.
رغم ذلك، لا يمكننا أن نتخيّل مسلسلاً تنتجه شركة «HBO»، أو أيّ فيلم يحقق نجاحاً تجارياً عاصفاً، يظهر أعضاء ك.ك.ك ومنظمتهم بأنّهم خاطئون ولكن «نقيضو-بطل Anti-hero» يمكن تبجيلهم. بالتأكيد لا يمكننا التغاضي عن الحرج العرقي هنا كسبب لذلك. ففي حين أننا نجد اليوم موجة انتقاد عارمة للأفلام التي حققت نجاحاً باهراً في بداية القرن الماضي، مثل «ذهب مع الريح» أو «ولادة أمّة»، بسبب الصورة التي تظهر فيها الأمريكيين السود، فليس هناك أيّ نقد من هذا النوع ضدّ أفلام المافيا.
إنّ هؤلاء الذين يعلمون الكثير عن أفلام المافيا سيتهمونني بلا شك بأنني أغفلت أفضل التفاصيل في هذه الأفلام التي تحدثت عنها. ربّما أكون قد فعلت ذلك، لكنني إن لم أفهم هذه الأفلام بشكل تفصيلي خاص بكل فيلم، فأنا بالتأكيد فهمت الفكرة العامّة خلفها جميعاً. علينا أن نرفض إضفاء الطابع الرومانسي على مؤسسة لعبت في ظلّ كلا النظام الإقطاعي والرأسمالي أسوأ أدوار الإجبار على قبول الاستغلال. فكما أنّ أفعال ك.ك.ك لا تحوي على أيّ بعد بطولي، ولا حتّى نقيض-للبطولي، فكذلك هو الحال بالنسبة للمافيا.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني