“مهمة غير مستحيلة”
كثيرون، ولا شك، شاهدوا المسلسل التلفزيوني الأمريكي "مهمة مستحيلة"، حيث يواجه البطل، وهو دائما عميل للاستخبارات الأمريكية (CIA)، عقبات تبدو معها المهمة الموكولة إليه فعلا مستحيلة، لكنها في النهاية تجد حلها على يديه، ليحمل المسلسل رسالة تقول إن لا مستحيل أمام الأمريكي الخارق!
في زيارته الأخيرة إلى فلسطين المحتلة، التي امتدت إلى عمان والرياض، التقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وزير الخارجية "الإسرائيلي" أفيغدور ليبرمان الذي قال له إن مهمته مستحيلة . لكن كيري خرج في تصريح صحفي ليقول: إن "مهمته صعبة، لكنها ليست مستحيلة"! أما رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، فقال لوزرائه، في جلسة الحكومة الأسبوعية التي عقدت يوم 30/12/،2013 مستبقاً وصول كيري: "في هذه المفاوضات، أصرّ على مصالحنا الحيوية بما فيها الاستيطان في "أرض إسرائيل" . وسيتم التوقيع على اتفاق سياسي، فقط إذا تم ضمان هذه المصالح الحيوية، وعلى رأسها امننا ونزع سلاحهم . وفقط إذا تم الاعتراف ب"إسرائيل" كالدولة القومية للشعب اليهودي . وفقط إذا تنازل الفلسطينيون عن حلم العودة، وعن سائر مطالبهم في أراضي الدولة اليهودية . نستطيع بعدها أن نتوصل إلى اتفاق" (الأيام- 31/12/2013) .
وفي محادثاته مع كيري، قال نتنياهو: "الشعب "الإسرائيلي"، وأنا شخصياً، مستعدون لصنع سلام تاريخي . لكننا نحتاج شريكاً فلسطينياً يلتزم أيضاً بصنع السلام" . وأضاف موضحاً معنى السلام الذي سيلتزم به: "معنى السلام هو الكف عن التحريض، ومكافحة الإرهاب . معنى السلام هو الاعتراف ب"إسرائيل" كدولة قومية للشعب اليهودي، والإيفاء بالاحتياجات الأمنية ل"إسرائيل" . معنى السلام هو الاستعداد لإنهاء الصراع إلى الأبد"!
مواقف نتنياهو تلك التي يكررها ويزيد عليها في كل مرة يتحدث فيها عن المفاوضات الجارية، استمطرت تعليقات كثيرة تكشف مدى جدية سعيه إلى السلام . من تلك التعليقات، ما جاء في مقال للبروفيسور زئيف شطيرنهال، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، حول موقف نتنياهو من مسألة السلام، حيث قال: "نتنياهو لم يوجد في السياسة كي يحقق السلام، بل جاء لتوفير غطاء للبلطجية ولتركيع الفلسطينيين بصورة لائقة، عبر مد عملية السلام إلى أجل غير مسمى"! (عرب 48- 27/12/2013) . أما صحيفة (هآرتس- 29/12/2013)، فجاء في افتتاحيتها حول موضوع "الشريك" الفلسطيني المطلوب، قولها: إن كل من لا يتبنى سياسته بنصها وروحها هو رافض للسلام، أما الشريك فهو "من يوافق على استمرار سيطرة "إسرائيل" على غور الأردن، ومن لا يدعو لمقاطعة بضائع المستوطنات، ومن هو على استعداد للاعتراف ب"إسرائيل" دولة يهودية" . وتضيف الصحيفة "الإسرائيلية" قائلة: "المشكلة أن شريكاً من هذا النوع لا يمكن وجوده حتى في صفوف أصدقاء "إسرائيل" الذين يئسوا من الدفاع عن مواقفها، وأصبحوا يفكرون في فرض العقوبات عليها" .
وفي الجانب الفلسطيني، كشف مسؤول فلسطيني فضل عدم ذكر اسمه، لوكالة (فرانس برس- 4/1/2014)، أن الرئيس محمود عباس خلال محادثاته مع جون كيري "كرر رفضه الاعتراف بيهودية دولة "إسرائيل"، أو بقبول وجود عسكري "إسرائيلي" على أراضي دولة فلسطين، أو أي وجود استيطاني في أراضي هذه الدولة" . وقال المسؤول الفلسطيني: إن كيري "خلال اجتماعه الأخير مع الرئيس عباس، ووفد من القيادة الفلسطينية، مارس ضغوطاً كبيرة على الرئيس للقبول باتفاق إطار يتضمن القبول بيهودية "إسرائيل""، وكذلك أن تكون القدس عاصمة للدولتين من دون تفصيل، وأيضاً وجود عسكري "إسرائيلي" وفلسطيني في الأغوار حتى يتمكن "الأمن الفلسطيني من القيام بمهامه كاملة"، وأخيراً "نصح" كيري الرئيس عباس بعدم التوجه إلى الأمم المتحدة!
على خلفية تلك المواقف المتعارضة كما تظهرها التصريحات، بالرغم من السرية المفروضة على المحادثات، علق كثيرون على "اتفاق الإطار" الذي يسوق له كيري، فكتب المعلق "الإسرائيلي"، نداف إيال، في صحيفة (معاريف- 3/1/2014)، معتبراً الاتفاق "وثيقة مشوشة، إن لم نقل مضللة بشكل مقصود"، ومضيفاً: إنه ليس اتفاقاً، لكنه "تصريح أمريكي لن يضطر الطرفان للتوقيع عليه، ويظل في نهاية المطاف تصريح أمريكي يذكر، في هذه اللحظة، بقدر أكبر بخريطة جورج بوش"!
أما صحيفة ("الغارديان"- 1/1/2014) البريطانية، فقد خصصت افتتاحيتها للمفاوضات الجارية و"عملية السلام" المزعومة، فاعتبرت أن "عملية السلام كانت تهدف إلى تجنب إحلال السلام بدلاً من التوصل إليه"! وقالت عن المفاوضات: "إن هذه المفاوضات كانت لمجرد الإيحاء للفلسطينيين بأن الجانب الآخر يسعى للتوصل إلى حل ما للصراع القائم، إلا أنه كان يسخر منهم، خاصة أنهم ظلوا في انتظار التوصل إلى قدر بسيط من العدالة لأكثر من جيل"!
ويبقى السؤال: من أين جاءت الثقة لوزير الخارجية الأمريكي ليعتقد أنه مهمته ليست مستحيلة؟! ومن أين جاءه هذا القدر من التفاؤل بأنه سوف يتوصل إلى اتفاق بين طرفين مطالبهما على طرفي نقيض، فيما تعلن المتحدثة باسم وزارته أن دوره ليس أن يفرض حلاً، بل أن يقدم "اقتراحات" يحاول فيها التوفيق بين المطالب المتعارضة؟ الحقيقة أن المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية تكذب، بقدر ما يكذب رئيسها، في وقت يعلن فيه كل رموز الإدارة الأمريكية انحيازهم وتبنيهم لكل مطالب نتنياهو وحكومته من المتطرفين . إن السر في ثقة وتفاؤل كيري، يكمن في كلمة واحدة هي "الضغط" على الجانب الفلسطيني، الذي سجن نفسه في خيار المفاوضات، والمراهنة على الولايات المتحدة، و"المجتمع الدولي" . وهكذا تصبح المهمة المستحيلة مهمة غير مستحيلة . . . وتصح نبوءات المسلسل الأمريكي .
الخليج