لماذا نهج مانديلا خيار الصفح والتسامح؟
سيكتب التاريخ أن نيلسون مانديلا هو من أسس، أو قل أعاد تأسيس، أعمق معنى لمفهوم التوافق السياسي الذي أرسته الفلسفة السياسية الحديثة، منذ ثلاثمئة عام، وإن لم تكن تجارب الثورات والبناء الديمقراطي في العصر الحديث، وفي الحقبة المعاصرة، قد أخذت به مبدأ وقاعدة إلا في ما ندر .
فالرجل، وحركته السياسية الوطنية (المؤتمر الوطني الإفريقي)، كانا في وضع لم يكن معه إلا أن يذهبا في الخيارات الراديكالية إلى أبعد حد ممكن، في مواجهة سياسة عنيفة وخرقاء من الميز العنصري البغيض، لم تمتهن كرامة السود - السكان الأصليين - فحسب، ولم تكتف بحرمانهم من أبسط حقوق البشر فحسب، بل تركت جروحاً تاريخية غائرة في نفسيتهم الجماعية ليس سهلاً على المرء أن يتصور كيف يمكن أن تندمل سريعاً، ولا كيف تقبل العلاج بوجبات من النسيان الإيجابي .
لم يجرب مانديلا خيار التسوية والصفح فقط، وإنما هو جرب، في الماضي، حمل نظام الأبارتهايد - بالقوة المسلحة - على التسليم بالحقوق الشرعية، والسياسية والوطنية لشعب جنوب إفريقيا على مثال ما ستفعل الحركات الوطنية الأخرى في الإقليم (ناميبيا، زيمبابوي) في مواجهة النظام العنصري للمستوطنين البيض . وهو دفع ثمناً باهظاً - على الصعيد الشخصي - لخياره القتالي، حيث قضى سبعة وعشرين عاماً في سجون النظام العنصري، قبل أن تنضج في وعيه السياسي فكرة التسوية التوافقية بين الحركة الوطنية الجنوب إفريقية والنظام العنصري . وليس معنى ذلك أن الخيارات الراديكالية لنيلسون مانديلا و"المؤتمر الوطني الإفريقي" لم تفلح في فتح الطريق أمام تحصيل الحقوق الوطنية الجنوب إفريقية، إذ لولا ضغط السلاح والمقاومة المدنية الطويلة المدى ما كان للتسوية تلك أن تحصل، وأن ينتهي معها نظام الميز العنصري .
ربما يستغرب المرء لكمية التسامح والصفح في وجدان مانديلا، ولقدرته على إقناع شعبه وحركته الوطنية، بضرورة مقابلة وحش الأبارتهايد بأخلاق الصفح والتسامح . والحق أن ذلك، فعلاً، مما يثير الدهشة والإعجاب، ويرفع من معدل الشعور بأننا إزاء شخصية إنسانية غير عادية، على صعيد السجايا والخصال والملكات الكاريزمية، ولا تشبه غيرها من الشخصيات التي قادت حركات التحرر (ماخلا حالة غاندي) . وليس من معنى، هنا، أن يفسر الأمر - كما فعل كثيرون - برده إلى ثقافة مسيحية عميقة تشبع بها مانديلا، مثلما تشبع بها ديسموند توتو، ورسخت في نفسه قيم التسامح والصفح والغفران، ذلك أن قادة مسيحيين آخرين لم يعمر وجدانهم بالقيم النبيلة التي تحلى بها مانديلا رغم أنهم يشاطرونه الانتماء الديني . وعليه لا مكان لتفسير "مسيحي" لشخصية مانديلا، بل لا مكان حتى لتفسير أخلاقي لهذه الظاهرة المثيرة والنادرة التي جعلت من الرجل - حقاً - أيقونة من أبهى أيقونات هذا العصر .
لا مناص، إذاً، من تفسير سياسي لظاهرة التسامح في استراتيجية نيلسون مانديلا في مواجهة نظام من الميز العنصري في غاية الغلظة والشراسة .
قلنا إن فكرة التوافق من أساسات منظومة الفلسفة السياسية الحديثة . وذلك، بالضبط، ما وعاه نيلسون مانديلا حين أخذ بها نهجاً في إدارة الصراع مع النظام العنصري في بلده . ليس ضرورياً أن يكون قد وعى ذلك نظرياً أو فلسفياً، من طريق العودة إلى كلاسيكيات الفلسفة السياسية الحديثة ونصوصها التأسيسية، لكنه وعاها - قطعاً - وعياً سياسياً وتاريخياً من خلال تجربة الصراع مع نظام الأبارتهايد . ومن حسن حظ مانديلا أن خصمه السياسي (فريدريك دوكليرك) كان عاقلاً مثله، وأدرك - بالخبرة - عين ما أدركه
مانديلا .
لقد اقتنع الفريقان معاً أنهما جربا أن يلغيا بعضهما بالوسائل كافة، ولم يفلح أي منهما في ذلك من خلال معركة تكاسر الإرادات، فلا نظام الأبارتهايد نجح في تحطيم الحركة الوطنية الجنوب إفريقية وإنهائها، ولا هذه نجحت في إسقاط النظام العنصري ومحوه . لم يكن التعايش بين القمع والاضطهاد العنصري وبين المقاومة المدنية اليومية ممكناً، لأنه - بكل بساطة - يمدد حال النزيف المتبادل، ولا يحل مشكلة . كان لابد من خطوة شجاعة مبناها على التنازل المتبادل، والتسوية التوافقية التي تطوي صفحة الماضي، وتتجنب خيارات الثأر والقصاص . وكان لابد لمثل هذا المخرج من قيادة كاريزمية تشرعنه . هذا، بالذات، ما يفسر لماذا بدا مانديلا متسامحاً مع جلادي شعبه . لقد ارتضى التضحية بالحق الشخصي مقابل الحصول على حق عام .
من يقرأ مذكرات مانديلا الشخصية، يستحصل على الموارد الكافية التي تسمح له بتفسير الظاهرة على النحو الذي حاولناه .