الإهدار القومي لأعمار المصريين
لا تعرض الحكومة علينا أي برنامج لحل أزمة المرور. أيضا فإن برامج الأحزاب السياسية كافة لا تتضمن إشارة لأزمة المرور وكيفية حلها. على ما يبدو هي قضية خارج اهتمام الدولة والحكومة والمعارضة. هذا يعني أن المواطن المصري خارج اهتمام الدولة والحكومة والمعارضة معا.
والذين يقولون إن النهوض الاقتصادي هو حجر الأساس في التطور، والذين يقولون إنه الدستور الضامن للمواطنة والديمقراطية، والذين ينادون بثقافة التنوير أو تعميم العدل والمساواة ، كل أولئك لا يقولون لنا: ما قيمة أي شيء أو جدواه إن كنا نقوم بإهدار قومي لحياة المصريين بفعل أزمة مرور تلتهم أعمارهم وأوقاتهم التي يمكن أو ينبغي أن تنصرف للإنتاج وللإبداع؟. الوقت هو أثمن ما في الحضارة الإنسانية. فهل يمكن لنا أن نحقق شيئا أي شيء ونحن نهدر الوقت بل الوقت كله؟ بالنسبة لي أصبح حل أزمة المرور هو المؤشر الحاسم على أية نوايا حقيقية للإصلاح في مصر، سواء أكان ذلك من جانب الأحزاب أو القادة أو الحكومة أو أولئك الذين يشمرون أكمامهم استعدادا لسباق الرئاسة.
في أزمة المرور تتبلور أزمة مصر كلها كما تتبلور في قطرة من بحر كل خواص البحر، فهي شاهد على غياب التخطيط وعلى تغييب دور العلم والعلماء، وهي شاهد على التفاوت الاقتصادي ممثلا في الفارق بين ركاب السيارات الخاصة وركاب الميكروباصات العتيقة، أما العبارات والعلامات المتضاربة المرسومة على زجاج السيارات فهي شاهد على غياب مشروع وطني جامع، أخيرا فإن الأزمة شاهد أيضا على التغيرات التي طرأت على أخلاقيات المصري.
وعندي أن حل أزمة المرور مؤشر على جدية أي طرف في التعامل مع الواقع المصري، ذلك أن مصر- وليس السيارات- حبيسة الازدحام، ومصر- وليس السيارات – هي العاجزة عن الحركة والتقدم بسبب تلك الأزمة. وما من شيء سينفع بشرا تنفد أعمارهم في الشوارع المسدودة، لا دستور، ولا ثقافة، ولا غير ذلك. الناس بحاجة إلي أعمارها أولا. ذلك أن أخطبوط الأزمة لا يلتهم أوقاتنا فحسب، بل يلتهمنا بالمعنى المباشر بعد أن أصبحت مصر تحتل المركز الأول عالميا في حوادث الطرق بمعدل أكثر من ستة عشر قتيلا يوميا، وثمانين مصابا بمختلف الإصابات الخطرة. أي أننا نفقد يوميا نحو مئة كفاءة عقلية وروحية. المضحك أن الإدارة العامة لمرور القاهرة بدأت من 9 نوفمبر حملة" للتوعية بآداب وقوانين المرور "تستمر حتى 20 نوفمبر. الحملة تحت شعار" المصري يقدر"! الحملة مضحكة لسبب واحد على الأقل أنها تنطلق من أن جذر المشكلة هو عدم الوعى الكافي بآداب المرور! وليس أن المشكلة في الطرق المسدودة، والمطبات، والشوارع غير المسفلتة، وغياب شرطة المرور، وعدم البحث عن حل جاد للأزمة.
ذات مرة وقف بنا الأتوبيس في الطريق، فأخذت أحسب أنني أفقد في المواصلات أربع ساعات يوميا، أي شهرا ونصف الشهر سنويا. هذا معناه – إذا كان متوسط الأعمار ستين عاماً- أن كل منا يفقد نحو ثمانية أعوام من عمره! تحذف الحكومة من أعمارنا تلك السنوات بسبب البلادة وانعدام الخيال والضمير.
أحمد الخميسي - كاتب مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.