إنتفاضة غزّة: مَرحلة نضاليّة جديدة
يمكن القول دونما مبالغة أن “مسيرات العودة وكسر الحصار” التي انطلقت في 30 آذار / مارس الماضي وحملت هذا العنوان الوطني العام ستُشكل علامة تاريخية فارقة في حركة النضال الوطني الفلسطيني وبداية لمرحلة كفاحية جديدة في الوطن المحتل والشتات، مرحلة لن تكون مقطوعة عن سياق التجربة الثورية داخل فلسطين المحتلة وإن كان لها طابعها “الغزّي الخاص” حتى الآن. فالقطاع المحاصر إنتزع، لأسباب كثيرة ومعروفة، موقع المبادرة والقيادة وأعلن عن إنتفاضة لم تكتمل ملامحها وسماتها وشعاراتها السياسية بعد.
إستطاعت جماهير شعبنا في قطاع غزة التي إنتفضت تحت راية “العودة وكسر الحصار” تقديم وإجتراع أساليب وأدوات نضالية جديدة تتناسب مع واقع “مجتمع الحصار” ليس على صعيد تكامُل المقاومة السلّمية الشعبية والمسلحة وحسب بل وحتى في تعبيد وشق الطريق مجددًا نحو إنتفاضة فلسطينية شاملة، فهذا هو الأمل/ الهدف: إنتقال شرارة الإنتفاضة إلى ميدان المواجهة الشاملة المباشرة في عموم كل فلسطين المحتلة والشتات.
لقد حملت الطبقات الشعبية الفلسطينية المحاصرة في غزة طائراتها الورقية وإطارات الكاوتشوك ومعاولها وأسلحتها البسيطة وخرجت لتهدم جدار الحصار وترمي حجرًا كبيرًا وجه الرّكود والجمود وفي مياه السياسة الفلسطينية والعربية، ولتُسقِط الكثير من الأوهام و أوراق التوت وتكشف مجددًا عن دور أقطاب معسكر العدّو الشامل الذي يحاصرها بل وتحشره في مأزق حقيقي على مستوى المنطقة والإقليم و العالم .
واذا كانت إنتفاضة غزة لم تقطع الطريق حتى الآن على مسار التصفية عبر صفقة القرن ولم تدفنها تمامًا، إلا أنها خربشت الأوراق الامريكية وعطلتها ولو جزئيا. فلم تجعل حفلة نقل السفارة الأمريكية الى القدس تمر هكذا دون ضجيج وصراخ ودماء ودفعت مقابل ذلك أغلى ما تملك.
إن مواجهة برنامج التصفية مهمة وطنية وقومية وأممية تتجاوز حدود وقدرات قطاع محاصر مهما بلغت درجة الإستعداد فيه للتضحية وبذل الدماء وأرواح شبابه وأطفاله ورجاله ونسائه. فالإعتزاز بالروح الكفاحية التي يتمتع بها شعبنا في القطاع يجب ان لا تجعل البعض يلقي مسئولية تحقيق العودة والتحرير على ” شعب غزة ” ، واذا كان هذا هو الخيار الوحيد ،إذن لتقود غزة المشروع الوطني التحرري الفلسطيني ولتكن المقاومة فيها مرجعية الكل والممثل الشرعي الوحيد. فمن يقاتل أولى وأحق بالقيادة .
إلانتفاضة الكبرى 1987 و انتفاضة غزة 2018 : تشابه وإختلاف
تتشابه الظروف السياسية المحيطة والأحداث الرّاهنة التي انطلقت فيها إنتفاضة غزة آذار 2018 مع شروط مرحلة سابقة عاشتها الحركة الوطنية الفلسطينية قبل نحو 30 عامًا حين قدحت شرارة الإنتفاضة الشعبية الكبرى في الأرض المحتلة/ ديسيمبر 1987 من مخيم جباليا للاجئين في قطاع غزة أيضاً ، وإستمرات في غزة أيامًا وأسابيع قبل أن تنتقل وتعم كل مدينة ومخيم وقرية وحارة في الأرض المحتلة !
كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تعيش في أفران الموت والجوع والحصار 1982 ـ 1988 وسادت حالة من الإنقسام السياسي في مؤسسات منظمة التحرير وصلت الى حدود المواجهة المسلحة بين قوات تابعة لحركة فتح بقيادة ياسر عرفات وقوى فلسطينية حليفة لسوريا.
ونحن نذكر جيدًا كيف إستعدّت الأنظمة العربية الرّجعية وبايعاز وتوجيه من الولايات المتحدة الأمريكية وعقدت ” قمة عمان ” الشهيرة 1987 التي جرى فيها تهميش مكانة القضية الفلسطينية وعدم إعتبارها القضية المركزية للأمة العربية حين أدرجتها على جدول الأعمال بعد قضايا مثل ” دعم المجاهدين في أفغانستان ” و ” الحرب العراقية ـ الإيرانية ” وغيرها من عناوين فرعية. كانت هذه سياسة تخدم الى درجة كبيرة التوجه السعودي والأردني خاصة بعد استعادة نظام كامب ديفيد إلى حظيرة الجامعة العربية عبر البوابة الفلسطينية !
وظهرت حالة من الإنكشاف الداخلي على المستوى الوطني الفلسطيني تشبه الوضع الرّاهن اليوم . تصدع في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بعد إجتياح بيروت عام 1982 وخروج قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان ثم أعقبتها حروب داخلية بالسلاح في مخيمات طرابلس ( نهر البارد و البداوي ) رافقها حصار طويل لعدد من المخيمات على يد حركة أمل اللبنانية.
وفي تلك الفترة بدأت القيادة المتنفذة في م ت ف بمغازلة النظام المصري كما قامت بتوقيع ” اتفاق عمان ” 1985 الذي همش وحدانية تمثيل المنظمة واعاد النظام الأردني بقوة أكبر الى الساحة الفلسطينية من جديد ، هذه الأسباب وغيرها التي عصفت في الساحة الفلسطينية شجعت في تلك الفترة الملك حسين على إستعادة حلمه في العودة الى الضفة المحتلة عبر برنامج التقاسم الوظيفي مع كيان الإحتلال برعاية امريكية مباشرة. كما شجع هذا الإنقسام والضعف الداخليين من جهة اخرى كيان الإحتلال نفسه على تسريع وبناء المزيد من المستعمرات ومصادرة الأرض وزيادة وتيرة القمع اليومي بحق شعبنا منذ العام 1985 الى مستويات أعلى وغير مسبوقة.
في تلك الأجواء والظروف التي تشبه أيامنا إنطلقت من قطاع غزة شرارة أطول انتفاضة شعبية في تاريخ الإنسانية استطاعت أن تُعيد للقضية الفلسطينية موقعها الطبيعي والمركزي في العالم والمنطقة وتؤسس لوحدة شعبية وميدانية وقيادة وطنية موحدة.
إنجازات لم تكتمل بعد ومهام وطنية قادمة :
يمكن الإشارة هنا إلى عدد من الإنجازات التي حققتها إنتفاضة غزة حتى الآن.
أولاً: أعادت طرح حق العودة للاجئين الفلسطينيين باعتباره أساس القضية الفلسطينية وعقدة التسوية وجوهر الصراع كله . فبعد مرور 70 عامًا على الإحتلال وطرد واقتلاع الأكثرية الشعبية الفلسطينية من وطنها، لا يزال الشعب الفلسطيني يناضل لتحقيق حريته ، متمسكا بحقه في العودة إلى دياره وقُراه ومُدنه التي شرّد منها قسرًا.
لقد حرص الإعلام المعادي في الغرب وداخل الكيان نفسه على تجنب ذكر كلمتي ” العودة ” و ” الحصار ” وظل يعتبر ان المشكلة هي ” حماس ” و ” الإرهاب ” و” العنف ” وفشل الكيان الصهيوني وحلفائه على هذه الجبهة فشلاً ذريعًا.
ثانيًا: أكدت مسيرات العودة وكسر الحصار (انتفاضة غزة) أن المشاركة الشعبية الفلسطينية واتساعها لها أهميتها الحاسمة المقررة في الشأن الوطني الداخلي وفي تغيير وتعديل موازين القوى المحلية على الأقل . لقد شق شعبنا طرق وخيارات نضالية شعبية ستصب حتماً في تجذير وحدة الشعب والأرض والحقوق وفي بناء وعي ثوري جديد والإرتقاء بدور ومفهوم المقاومة الشعبية الشاملة.
وكان لشعار “من حيفا الى غزة ” دلالة رمزية خاصة ستترك أثرها الإيجابي على تعزيز وحدة شعبنا في كافة أماكن تواجده وكشف هذا العنوان عن نقيضه أيضا ، حالة التفكك والشرذمة التي صنعتها السلطة الفلسطينية ونهج المفاوضات العبثية والإستسلام منذ العام 1993
ثالثًا: كشفت انتفاضة غزة الباسلة عن عجز وتواطئ سلطة رام الله واماطت اللثام عن ضيق أفقها الوطني و السياسي ومعها بالضرورة سقوط مدوي لكل القوى والشخصيات الفلسطينية التي شاركت في ـ أو صمتت عن ـ أو بررت ـ فرض العقوبات الجائرة بحق شعبنا في غزة . تلك القوى والشخصيات التي إختارت المشاركة في مجلس رام الله اللاوطني واللاشرعي لم تسقط أمام الشعب الفلسطيني وحسب بل تعرت أمام الجماهير العربية و الرّأي العام الدّولي أيضًا. فكانت رسالة مسيرات العودة وكسر الحصار واضحة : من لا خير له في أهله لن يكون له خيرًا في أحدْ.
رابعًا: فرضت الحالة الشعبية الجديدة في فلسطين المحتلة عمومًا وفي القطاع خصوصًا على دول المنطقة والعالم سؤالاً كبيرًا حول جدوى استمرار التعامل مع القضية الفلسطينية ومع الحصار من المنظور الأمني الإسرائيلي فقط . بدأنا نسمع اصوات ترتفع وتتحدث عن ” أفكار جديدة” ستأتي من أوروبا ومقاربات سياسية من نوع آخر . فالحصار الشامل على القطاع منذ 11 سنة ، الذي تشارك فيه ( إسرائيل وأمريكا والإتحاد الأوروبي والسلطة ومصر الرّسمية ) لن ينتج إلا المزيد من الإنفجارات و” التشدد ” والإصرار على مواصلة النضال في أوساط الجيل الجديد من الفلسطينين.
خامسًا: كسرت الإنتفاضة الفلسطينية في القطاع معادلة كانت مريحة للكيان الصهيوني عنوانها ” حصار ؟ أم حرب + حصار ؟ ” التي حاول العدو الصهيوني فرضها على شعبنا في غزة طوال 11 سنة الماضية . فإما حصار (هدوء) أو حصار وحرب معًا ، وهذه المعادلة فككتها الإنتفاضة الشعبية في القطاع الباسل من خلال إدخال عنصر (لا هدوء ولا استقرار ) عبر توسيع خط المواجهة مع العدو الصهيوني على طول ” الحدود ” ومن خلال تكامل كافة أشكال المقاومة الشعبية والمسلحة.
خلاصة عامة:
إن الإنتقال من (انتفاضة غزة) إلى انتفاضة فلسطينية شعبية وشاملة في الوطن والشتات هي المهمة الوطنية المفترضة رقم واحد على جدول قوى المقاومة الفلسطينية وبرنامج الحركة الطلابية والنقابية والنسوية وفي مقدمتها القوى الشبابية الجديدة. وهذا الهدف لا يتحقق بالرغبة ولا بالحلم وحدهما بل باتساع وضمان المشاركة الشعبية الفلسطينية أولاً وعاشرًا..
هناك معيقات محلية داخلية تكبح انتقال الإنتفاضة من غزة الى باقي الجسد الفلسطيني يقف على رأسها ضعف العامل الذاتي الفلسطيني في الضفة المحتلة وغياب التنسيق المباشر بين مختلف التجمعات الفلسطينية داخل وخارج الوطن ، كما ان هناك حالة من الشرذمة السياسية الداخلية وتناقض في البرامج .
إن تورط أجهزة السلطة الفلسطينية مع الإحتلال في برنامج التنسيق الأمني يقف عقبة كبيرة أمام تطور الإنتفاضة فضلا عن عجز قوى منظمة التحرير الفلسطينية وعدم قدرتها على مغادرة أزمتها البنوية الشاملة وما أصابها من حالة الشلل والعطب والهرم.
وعلى قواعد وكوادر الفصائل الوطنية والإسلامية تجاوز قيادتها كما تجاوزت الجماهير الشعبية الكل، أن تتعلم درس الجماهير وتستلهمه وتذهب إلى فرض حالة جديدة ضاغطة في الشارع تؤمن وتحقق وحدة وطنية ميدانية ولو بالحد الأدنى في مواجهة الإحتلال ومشروع التصفية الأمريكي، تحت شعار : شعب واحد ..عدو واحد..وطن واحد، ولتكون رافعة وطنية تضمن توفير ركائز الصمود للإنتفاضة وتوفر عوامل الوحدة لها وعناصر ديمومتها واستمرارها وتطويرها.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني