الصين والإمبرياليّة 2| أحادي ضدّ متعدد
أجيت سينغ أجيت سينغ

الصين والإمبرياليّة 2| أحادي ضدّ متعدد

يتجذر العداء لبكين في أسّ السياسة الأمريكية الحديثة. أدّى سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991 ونهاية الحرب الباردة إلى نشوء العصر الذي سعت فيه الولايات المتحدة إلى فرض هيمنتها العالميّة أحاديّة القطب. وهو الأمر الذي تمّ إيضاحه صراحة في الوثيقة التي توجه السياسة الدفاعية لعام 1992 والتي تمّ إعدادها في ظلّ المحافظ-الجديد بول وولفويتز، وقد كانت المبادئ الرئيسيّة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في هذه الحقبة هي «منع ظهور منافس جديد» قادر على تحدي تطلعات الولايات المتحدة في الهيمنة العالمية. وقد سعت الولايات المتحدة خلال ربع القرن المنصرم لتحقيق هدفها بكلّ عدوانية، منخرطة بحروب لا نهاية لها، وبأفعال «تغيير الأنظمة»، وببناء القواعد العسكرية حول العالم، والتي بلغت اليوم 900 قاعدة عسكرية.

تعريب: عروة درويش

لكن رغم كلّ هذه الجهود الهدامة، لم تتمكن أمريكا من إيقاف نهوض الصين، وهو النهوض الذي شكّل العقبة الرئيسيّة أمام تحقيق الولايات المتحدة للهيمنة أحاديّة الجانب. ورغم أنّ واشنطن سعت إلى تغيير النظام في بكين منذ الثورة الاشتراكية عام 1949، فقد اتبعت الولايات المتحدة عموماً استراتيجيّة «الاحتواء من خلال المشاركة» بعد تطبيع العلاقات معها في السبعينيات. كانت واشنطن تأمل بشكل جزئي أن يؤدي الإصلاح الاقتصادي الصيني وسقوط الاتحاد السوفييتي إلى إصلاح سياسي في بكين بحيث يتخلى الحزب الشيوعي عن القيادة وعن الاشتراكية ذات السمة الصينية، وذلك لصالح النيوليبرالية الموجهة غربياً. لكنّ التاريخ أثبت أنّ الصين لا تملك مثل هذه النوايا.

وبسبب إدراكها لتدني نفوذها، وأنّ الصين لن تصبح «أكثر شبهاً بنا»، تحاول واشنطن إطلاق حرب باردة جديدة ضدّ الصين. إنّ تحديد الصين كهدف أساسي للسياسة الخارجية الأمريكية ظهر خلال عهد أوباما، مع «محور آسيا» الذي يسعى لتطويق الصين، وذلك عبر تحويل 60% من الأصول البحرية العسكرية الأمريكية إلى آسيا بحلول 2020. وقد جادلت هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة خارجية بأنّ على الولايات المتحدة أن تعيد توجيه تركيز سياستها الخارجية من الشرق الأوسط إلى الهادئ-الآسيوي من أجل ضمان «استمرار القيادة الأمريكية بشكل جيّد في هذا القرن». والتطورات في ظلّ التطور هي علامة على تصعيد هذه الاستراتيجية التي يتبناها الحزبان.

  • الصراع أحادي القطب-متعدد الأقطاب:

لن نبالغ مهما تحدثنا عن أهمية العلاقة الصينيّة-الأمريكية، حيث تقع الدولتان في صميم الصراع أحادي القطب-متعدد الأقطاب على تشكيل النظام العالمي. ففي حين تسعى الولايات المتحدة لضمان هيمنتها على العالم، فإنّ صعود الصين هو أمر أساسيّ للتوجه متعدد الأقطاب، حيث تظهر العديد من القوى المركزية لتشكيل عالم تفاوضيّ أكثر ديمقراطية.

إنّ التوجه السياسي الصينيّ مكوّن بشكل جوهري بسبب تاريخ الإذعان للقوى الأجنبية أثناء «قرن الإذلال» والكفاح المناهض للإمبريالية للوصول إلى التحرر الدولي. في ظلّ قيادة الحزب الشيوعي، كانت الصين تعرّف نفسها دوماً بأنّها تنتمي للعالم الثالث أو للجنوب العالمي، وبأنّها منضمة للنضال الجمعي للمستعمرات السابقة والأمم المقموعة ضدّ اللا مساواة العالمية التي تعمل من خلالها الإمبريالية.

تواصل الصين تحت شعار «تعاون جنوب-جنوب» دعم الكفاح الجماعي من أجل تشجيع الدول النامية على اتخاذ موقف أكبر في الحكم العالمي، وبناء نظام دولي قائم القانون مكان النظام القائم على الإجراءات أحاديّة الجانب للقوى الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة. وتتخطى الصين هنا البلاغة فحسب، فتزود البلدان النامية باستثمارات حاسمة وتشيد البنى التحتية فيها وتنقل لها التكنولوجيا وتعفيها من الديون وتدعمها دبلوماسياً. والجانب الأهم هو قيام الصين، على عكس الولايات المتحدة والغرب الذين يتدخلون بشكل تدميري، باحترام قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، وعدم فرض شروط على علاقاتها بهم.

إنّ احترام الصين لتقرير المصير في البلدان الأخرى جعلها شريكاً لا غنى عنه للدول التي تقاوم الهيمنة الأجنبية وتسعى للتنمية المستقلة، ويتضمن هذا كوبا وفنزويلا وبوليفيا وزيمبابوي وسوريا وإيران وكوريا الشمالية. وهذا هو السبب الذي دفع بثوريّ كوبا فيديل كاسترو إلى الإعلان عام 2004 أنّ: «الصين قد أصبحت بشكل موضوعي أكثر الآمال الواعدة والمثال الأفضل لبلدان العالم الثالث... عنصراً هاماً للتوازن والتقدم وحماية السلام والاستقرار العالميين». وقد أعلن وزير الخارجية الفنزويلي في تصريح شبيه في كانون الأول الماضي: «شكراً للإله على قدرة البشرية على الاعتماد على الصين» عندما كانت بلاده تواجه العقوبات والتخريب الاقتصادي والتهديد بتغيير النظام من الولايات المتحدة.

وبسبب مساهمة العلاقات الدولية الصينية في تراجع سلطة الولايات المتحدة العالمية، تتهم واشنطن الصين بشكل يثير السخرية، بأنّها تعزز التبعية في إفريقيا وبأنّها تصبح «قوّة إمبريالية» في أمريكا اللاتينية. لكن في حقيقة الأمر، تقوم الصين بدلاً عن التصرف بطريقة افتراسية بتقديم التمويل الحاسم وبشروط مواتية للمقترضين الأفارقة، وتدعم الكفاح اللاتيني ضدّ الإمبريالية. ومجرّد أن تحظى الصين بهذه الإشادة من دول الجنوب العالمي المستقلة في مواجهة الولايات المتحدة – أقوى إمبراطورية في التاريخ – يكشف سخافة مثل هذه الإدعاءات. تحاول الولايات المتحدة القلقة من فقدانها لهيمنتها دقّ إسفين بين الصين وبقيّة دول العالم الثالث، وكذلك تحاول تقييد حقّ الدول النامية باختيار شركائها ومسارها. أظهرت الصين بأنّ صعودها متوافق مع حقّ تقرير الدول لمصيرها، سواء أكانت رأسمالية أم اشتراكية، وهو الأمر المتناقض مع الإمبريالية الأمريكية.

ومن المهم أنّ ندرك بأنّ عدوانية الولايات المتحدة تجاه الصين ليست ببساطة ناتجة عن فكرة المنافسة الضيقة مع قوّة آسيوية، بل هي محاولة قمع تقوية الجنوب العالمي ودمقرطة العلاقات الدولية. الصين هي الهدف الرئيسي لإمبريالية الولايات المتحدة بسبب أهميتها الاستراتيجية كقلب العالم متعدد الأقطاب، وهو ما يهدد بإنهاء تفوق الولايات المتحدة الدولي وإنهاء 500 عام من الهيمنة الغربية على العالم.

وفي حين أنّ الصين لا تمثل المجتمع المثالي وتستمرّ في مواجهة التحديات، فإنّ النظام الاشتراكي والسمات الصينية كانت قادرة حتّى الآن على الاستجابة لعدد كبير من القضايا الحاسمة التي تواجه العالم اليوم، وبشكل أمثل من رأسمالية الولايات المتحدة بكل تأكيد. هذا هو على الأرجح السبب الذي جعل الصين تقود التفاؤل العالمي، مع 87% من الصينيين الذين يشعرون بأنّ البلاد تسير بالاتجاه الصحيح، مقارنة مع 43% فقط في الولايات المتحدة.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني