الحريّة الدينيّة في الغرب: الأفكار وحدها لم تكن كافية
لقد كان كلّ من لوك وسبينوزا وفولتير متقدي الذكاء، لكنّ الحرية الدينية في أوروبا قاد إليها تشكّل الدول وليس الفلسفة.
تعريب: عروة درويش
1:
أصبحت الحرية الدينية قيمة رمزية في الغرب. جزءٌ لا يتجزأ من الدساتير، يؤيدها السياسيون والمفكرون عبر الأطياف السياسيّة. وهي بالنسبة للكثيرين قيمة مطلقة، وشيء يخرج عن نطاق المسائلة. لكن كيف ظهرت؟ ولماذا لا يزال يساء فهمها على نطاق واسع؟
وفقاً للرواية التقليدية، فقد نشأت حرية الدين في الغرب في أعقاب الحروب المدمرة التي تمّ خوضها بسبب الدين. وقد حفز هذه النشأة حجج قويّة لمفكرين أمثال جون لوك وباروخ سبينوزا وبيير بايل وفولتير. استجاب هؤلاء الفلاسفة والمنظرون السياسيون لوحشية الحروب الدينية بدعم المفاهيم الراديكالية للتسامح والحرية الدينيّة. ثمّ أصبحت مُثلهم التحررية العليا جزءاً من المؤسسات السياسيّة في الغرب في أعقاب الثورتين الأمريكية والفرنسية.
يعد هذا التفسير مقبولاً لدى معظم الفلاسفة السياسيين وعلماء الاجتماع بشكل عام. لكنّ الدلائل لا تدعم هذا التركيز على قوّة الأفكار في تشكيل صعود الحريّة الدينيّة، والتقليل من شأن الدور الحاسم الذي لعبته المؤسسات.
لقد كانت أفكار الفلاسفة مهمّة بكل تأكيد. لقد أشار بايل في كتابه "معجم النقد التاريخي" عام 1697 إلى حقيقة: إن ادّعى دين واحد بأنّه الإيمان الحقيقي الوحيد، فهذا يعني ضمناً بأنّه يمتلك الحق باضطهاد جميع الآخرين، وجميع الأديان الأخرى التي لديها حقٌ متساوٍ في تقديم مثل هذا الادعاء. وقد جادل بايل، عن طريق إظهار التذبذب المتأصل في مجتمع يعيش في ظلّ مزاعم الحقيقة الدينيّة هذه، بأنّه عندما يتبيّن بأنّ الناس يمكن أن يخطئوا في إيمانهم الديني، فلن يكونوا مذنبين عندما يحاولون بإخلاص أن يتفكروا في أوامر هذا الدين.
وقد قال لوك بأنّ الإيمان الحقيقي لا يمكن فرضه عنوة. واتبع هذا بالقول بأنّ تقييد حقوق الأقليات الدينية ينبغي ألّا يتمّ إلّا لأسباب تتعلق بالدولة، وليس لأسباب تتعلق بالإيمان أو بالخلاص. ولم يكن موقف فولتير أقل حدّة، حيث قام بتوثيق والسخرية من حالات الاضطهاد الديني. لقد قام مراراً وتكراراً بإظهار المتحمسين والمتعصبين لفرض العقيدة الدينية يبدون سخيفين. هذه أفكار ضرورية ومترابطة منطقياً، وتستحق منّا أن نستمرّ بدراستها وقراءتها.
لكنّ التركيز على هذه الأفكار لا يفسّر بشكل كامل كيف أتت الحرية الدينيّة إلى الغرب. لا تعني الأهمية الفكرية لبايل ولوك وفولتير بأنّ أفكارهم كانت محور الحرية الدينيّة التي تطورت وأصبحت أمراً فعلياً في الحياة السياسيّة والاجتماعية.
لقد تطلّب الأمر بشكل حاسم تغييرات سياسيّة ومؤسساتيّة لجعل الحرية الدينيّة في الغرب ممكنة وجذابة، وبشكل محدد: نمو وتعزيز قدرة الدول على وضع وإنفاذ القوانين. لم تكن أفكار بايل أو سبينوزا أو لوك هي من قادت صعود سلطة الدولة، بل الحاجة إلى جمع الموارد من أجل الحكم والحرب هي من فعلت. فقد أصبح التجانس والاضطهاد الدينيين مكلفين وغير فاعلين للغاية بالنسبة للدولة العسكرية-الماليّة.
2:
تميزت أوروبا في العصور الوسطى بحدود وسلطات سياسية متداخلة ومتعددة. لم تكن هناك "دول" بالمعنى المعاصر. كان يُنتظر من الحكام أن يقوموا فقط بإنفاذ "قوانين الأرض" القائمة، وليس تمرير قوانين جديدة. لم يتم فرض ضرائب في الأوقات العادية، وعاش الحكّام من عائدات أراضيهم. فالجيوش ليست دائمة بل يتم جمعها لغرض معين بحسب الحاجة. قد يكون للمناطق والمدن المختلفة داخل المملكة الواحدة تعرفتهم الجمركية وتشريعهم وأوزانهم ومقاييسهم الخاصة بهم. وكانت البيروقراطية ضئيلة الحجم.
تنوعت القوانين على المستوى المحلي، واعتمد إنفاذها عادة على هويّة الفرد. غالباً ما كان يعفى النبلاء من الضرائب، وكان للفلاحين حقوق وواجبات مختلفة عن سكان المدن. وكانت الطوائف المهنيّة تسيطر على التجارة.
وقد عُرفت القواعد والقوانين المختلفة المخصصة للناس المختلفين باسم "قواعد الهويّة"، وكانت هي العرف. لقد اعتمدت سياسات العصور الوسطى على قواعد الهويّة لكونها شكلاً منخفض التكلفة من أشكال الحكم. لقد افتقرت سياسات العصور الوسطى إلى القوّة اللازمة لفرض ذات القواعد على الجميع، لذا كان من المنطقي أن تعتمد على قواعد الهويّة.
وعلى مستوى أعمق، وفّرت قواعد الهويّة الغراء الذي أبقى النظام السياسي متماسكاً. فعن طريق معاملة الأفراد بشكل مختلف تبعاً لوضعهم القانوني أو لدينهم، حدّت هذه القواعد من المنافسة الاقتصادية بين المجموعات وولدت ريعاً اقتصادياً يمكن للنخبة السياسيّة أن تسيطر عليه. وقد استخدمت النخبة هذا الريع بدورها للحفاظ على نظام التمييز السياسي.
لقد قام الكثير من هذه القوانين التمييزية على الدين. اليهود مقرضو المال هم أحد الأمثلة. لقد حظر القانون الكنسي على المسيحيين إقراض المال بفائدة، لكنّ اليهود لم يكونوا يخضعون للقانون الكنسي. استطاع الحكّام عبر إنفاذ هذا الحظر أن يفرضوا ضريبة على الأرباح الاحتكارية التي يجنيها المقرضون اليهود. وفي مقابل هذه الأرباح قدموا لليهود الحماية من العنف والحقّ بإدارة شؤونهم الخاصّة.
كما عرض الدين مصدراً محتملاً للشرعيّة السياسيّة. فالدول الحديثة تحصل على الشرعية من خلال المؤسسات الديمقراطية أو من خلال توفير المنافع العامّة والنمو الاقتصادي، في حين تميل الدول ما قبل العصرية إلى الاعتماد أكثر على الدين.
وفي مقابل منح الحكام الشرعية السياسية، يمكن للسلطات الدينية أن تطلب من الحكام المدنيين أن يفرضوا التجانس الديني.
كان من المنطقي أن تعتمد دول القرون الوسطى على المؤسسات الدينية للقيام بالمهام الإدارية عوضاً عنها، ولتوفير المنافع العامة. فالمؤسسات الدينية مثل الكنائس والأديرة في أوروبا، والأوقاف والمساجد في العالم الإسلامي، كانت توفّر التعليم وتغيث الفقراء وغيرها من المنافع العامة. وبمقارنتها بالمنظمات غير الدينيّة، فقد كانت أفضل في استبعاد الطفوليين وجذب المساهمات من الأعضاء.
لقد تطورت شراكة من نوع خاص بين الكنيسة والدولة، وكان لهذه الشراكة عواقب هامّة على الحريّة الدينيّة في عالم ما قبل الحداثة. فقد تمكنت السلطات الدينيّة من الطلب إلى الحكام المدنيين، في مقابل منحهم الشرعية السياسيّة، أن يفرضوا التجانس الديني. وقد جذبت هذه الصفقات الحكام المدنيين أيضاً، حيث كانوا يعتقدون بأنّ المنافسة الدينيّة تولّد عدم الاستقرار السياسي.
كان التجانس الديني، وبالتالي اضطهاد المعارضة الدينية، بمثابة وسيلة الحفاظ على النظام السياسي. ولا يمكن تخيّل الحرية الدينيّة في مثل هذا العالم.
وتبدو واضحة طبيعة هذه الصفقات في تطوّر آراء مارتن لوثر عن الحريّة الدينيّة. دعا لوثر للحريّة الدينيّة عندما انشقّ عن روما بادئ الأمر. واعترف في أعماله المبكرة مثل "رسالة مفتوحة إلى النبلاء المسيحيين" عام 1520 بحق أيّ مؤمن باعتماد حكمه الخاص، وجادل ضدّ فرض المعتقد الديني. لكنّ مواقف لوثر تغيرت، وكانت حرب الفلاحين ما بين 1524 و1525 هي السبب المباشر في هذا التغيّر. لقد رفض منح الحرية الدينيّة للقائلين بتجديد العماد "Anabaptists"، ثمّ أدان أتباع زميله المصلح "هولدريتش زوينغلي" في سويسرا. تشير معارك لوثر الداخلية على الحرية الدينية وتلك المعاصرة له بأنّ القوى الفاعلة آنذاك استلزمت الإكراه الديني. لقد وصل لوثر إلى الاعتقاد بأنّ الانسجام الديني – على اللوثرية – مطلوب.
هناك أيضاً قضيّة جون كالفن ومايكل سيرفيتوس. كان سيرفيتوس مفكراً حراً، وبارزاً في تاريخ الطب لاكتشافه وظيفة الدورة الدموية الرئوية. لقد قام أيضاً بإنكار الثالوث المقدس، ممّا جعل منه عدواً لكلا الكاثوليك والبروتستانت. تواطئ كالفن مع المحققين الكاثوليك من أجل الحكم على سيرفيتوس بالهرطقة. دفع كالفن تجاه محاكمته عندما كان في جنيف. وقد تمّ إحراق سيرفيتوس حيّاً، وهو الأمر الذي هللت له أوروبا البروتستانتية.
انتقد اللاهوتي الفرنسي سيباستيان كاستيليو كالفن على الجريمة القضائية بحق سيرفيتوس، وبفعلته ثبّت موقفاً متسامحاً دينياً قوياً. لقد سبقت حجة كاستيليو من أجل التسامح الديني لوك وبايل بقرن ونصف، لكن لم يكن لآرائه أيّ تأثير حقيقي، ولم يتمّ تكريم كاستيليو بوصفه أحد أبطال الحرية الدينية رغم أنّه أحدهم.
ذلك أنّ الحرية الدينية لم تكن ممكنة في القسم الأول من القرن السادس عشر، ولم يكن هذا بسبب دوغمائية المعتقد ببساطة. لم يكن الناس في القرن الثامن عشر أذكى أو أكثر قدرة على التفكير في حجج التسامح من الناس الذين عاشوا في القرن السادس عشر. الذي اختلف هو أنّ الدين لعب دوراً أكبر في الحفاظ على النظام السياسي في القرن السادس عشر.
3:
ما الذي تغيّر إذاً؟ لماذا جاءت الحرية الدينية إلى الغرب؟ لماذا أصبح لوك وفولتير أبطال الحريّة الدينية وليس كاستيليو؟ يكمن الجواب في التغييرات المؤسساتيّة الجوهرية التي حدثت في الدول الأوربية بين 1500 و1800.
لقد كان التغيّر الأول هو التحوّل في نطاق الدول الأوربية. بدأ الحكام في أواخر القرون الوسطى بالاستثمار في بناء القدرات الإدارية وزيادة الضرائب بشكل أكثر انتظاماً. بأي حال، حدثت أكثر التطورات دراماتيكية بعد عام 1500 كنتيجة للتطور في التكنولوجيا العسكرية التي يصفها المؤرخون "الثورة العسكرية". وقد أجبر سباق التسلّح على مستوى القارة هذا، والذي نجم عن تطوير البارود، الحكام على الاستثمار في زيادة القدرة المالية والإدارية.
فقد تعيّن فرض ضرائب جديدة وإنشاء نظام دائم للاقتراض الحكومي من أجل تمويل جيوش أكبر. ولهذا حدث تحوّل عن النظم الضريبية الإقطاعية المخصصة لغرض معين واللامركزية، والاتجاه نحو توحيد المعايير والمركزة. فبدلاً من الاعتماد على فرض ضرائب على الفلاحين، تمّ فرض الضرائب على الكنيسة أو الشركات التجارية بالنيابة عنهم، وقد استثمر الحكام في البيروقراطيات الهائلة من أجل الاضطلاع بهذه المهمة بشكل مباشر. لقد كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها أن يدفعوا تكاليف الجيوش المتزايدة على الدوام.
إن أعدد الجيوش الأوربية توفّر ميزاناً للدلالة على مدى التحوّل. يقدّر عدد الجيوش التي تعاقبت على حرب المائة عام بين إنكلترا وفرنسا بالآلاف عموماً. وعندما جمع الفرنسيون قوّة تجاوزت العشرة آلاف رجل في معركة "أغنكورت" في 1415، كان هذا يعدّ حدثاً غير اعتيادي. بكل الأحوال، تمّت هزيمة ذلك الجيش على يد جيش إنكليزي أصغر بكثير.
بحلول القرن الثامن عشر، قاد الفرنسيون والإنكليز جيوشاً إلى المعركة تصل إلى قرابة 100 ألف. وقد وصل حجم الجيش الإجمالي للجيش الفرنسي في عهد لويس الرابع عشر إلى 400 ألف جندي في الميدان.
تطلّب تحمّل كلفة هذه الجيوش الجرارة، والبحرية باهظة الثمن التي بنتها الدول الحديثة منذ وقت مبكر، زيادة كبيرة في الإيرادات الضريبية. لقد تضاعفت الإيرادات الضريبية التي فرضتها الدولة البريطانية، بين "الثورة المجيدة" عام 1688 وبين الحروب النابوليونية عام 1815، 15 مرّة. وبالأخذ بالاعتبار أنّ نمو الإجمالي المحلي في ذات الفترة قد تضاعف 3 مرّات، فإنّ هذا يمثل تضاعف حجم الدولة خمس مرّات. وقد نجحت دولاً أخرى كذلك في زيادة عائدات الضرائب التي تجمعها (رغم أنّ بعض الدول مثل فرنسا لم تنجح بزيادتها إلى الحد المطلوب لمواكبة ارتفاع النفقات).
تُعرف التحولات المؤسساتية التي اضطلعت بهذه التغييرات باسم صعود الدولة المالية-العسكرية، والتي أدّى ظهورها إلى نشوب حروب مكلفة واسعة النطاق. عنت القدرة العسكرية والإدارية الهائلة للدول المعاصرة المبكرة بأنّ لديها القدرة على ملاحقة الهراطقة بشكل أكثر فاعلية من أسلافهم في القرون الوسطى. أحرق حكام مثل فيليب الثاني من آل هابسبورغ في هولندا، وماري الأولى في إنكلترا، مئات الأشخاص بسبب معتقداتهم الدينيّة.
رغم ذلك، قوّض تأثير هذه التغييرات، على المدى الطويل، الدين بوصفه أداة للشرعية السياسية، وعمل على استبدال الاعتماد القديم على قواعد الهويّة بقوانين أكثر عمومية. تابعت الدول الحديثة المبكرة التي ظهرت في أوروبا بعد 1600 إخضاع جميع مصادر السلطة البديلة – النبلاء والكنيسة – لسلطة واحدة ذات سيادة. وأصبحت الشرعية الدينيّة أقلّ أهميّة كمصدر للشرعية السياسية، وتمّ إضعاف الصفقات الكبرى بين الكنيسة والدولة. وباعتماد الدولة بدرجة أقل على السلطة الدينيّة، فقد طورت نهجاً أقل ميلاً إلى تقييم الانسجام الديني عالياً.
تدلّ حالة الكاردينال ريشيليو على هذه التطورات. دمّر ريشيليو سلطة النبلاء المستقلة في فرنسا، ووسّع سطوة الملكية، ورفع مصالح فرنسا فوق مصالح الإيمان الكاثوليكي رغم أنّه كاردينال. تضمن جزء كبير من هذه الإنجازات تدمير القوّة العسكرية المستقلة للهوغنوت "Huguenots" – البروتستانت الفرنسيون. فبينما سحق ريشيليو دولة الهوغنوت داخل الدولة، ضمن لهم حقّهم في العبادة وفقاً للعقيدة البروتستانتية. كان على الدين أن يصبح نشاطاً فردياً خاصاً عوضاً عن كونه سلطة سياسيّة. بكل بساطة: الحرية الدينية الأكبر أتت على حساب السلطة السياسية للدين.
أدت إجراءات المركزة والبيروقراطية إلى نتائج هامّة أخرى. فقد عنت هجر قواعد الهوية، ووضع قواعد أكثر عمومية من قبل الدولة عوضاً عنها. فقدت الطوائف المهنية امتيازاتها الاحتكارية. أصبحت الأنظمة القانونية موحدة بصورة متزايدة، وتمّ تنظيم الضرائب بشكل أكبر. لقد كان الأمر أقل تكلفة، بالنسبة للدول ذات البيروقراطيات الجامعة للضرائب عن طريق مهنيين، أن تعامل الجميع على قدم المساواة. وإمّا أصبحت القواعد التمييزية ضدّ البروتستانت أو الكاثوليك أو اليهود زائدة عن الحاجة بمرور الوقت، وإمّا تمّ التخلص منها في نهاية المطاف. ورغم أنّ عملية التسوية هذه قد تمّت بشكل تدريجي ومتقطع، فقد أثبتت بأنّها صلبة ولا رجعة فيها على المدى الطويل.
حاولت بعض الدول أن تفرض الانسجام الديني بصرامة. نصبت إسبانيا الهابسبورغ محاكم التفتيش وطردت سكانها من اليهود والمسلمين، وطردت فرنسا أيام لويس الرابع عشر الهوغنوت من أراضيها. لكنّ هذه المحاولات للعودة إلى انسجام العصور الوسطى الديني أثبتت بأنّها أخطاء باهظة التكاليف، وساهمت في إضعاف الأنظمة والحكومات التي شرعت بها.
لقد أدّى قيام دول "علمانية" وقوية نسبياً، والتي لم تعد بحاجة إلى الشرعية الدينية، إلى تحويل التوازن السياسي لصالح الحرية الدينية وتفكيك النظام القديم لقواعد الهوية. وبمجرّد حدوث هذا التغيير المؤسساتي، تحولت آراء النخبة لصالح الحرية الدينية.
4:
وتزودنا حالة تحرر اليهود بمثال هام عن كيفية حدوث الحرية الدينية تاريخياً. أصدر الإمبراطور جوزيف الثاني من آل هابسبورغ في عام 1782 أحد أول مراسيم التسامح مع اليهود في القارّة الأوربية. منح القانون حقوقاً مدنية معينة لليهود بشرط إدماجهم مع بقية السكان كمواطنين فاعلين. ورغم أنّه لم يمنح اليهود مساواة كاملة، ولكنّه شكّل تغييراً جذرياً في الطريقة التي يتم التعاطي بها معهم. ولم يكن الدافع وراء هذا الإعتاق هو الالتزام بمبادئ المساواة الدينية بقدر ما كان الاعتراف بأنّ البقاء على الاعتماد القديم على قواعد الهويّة يفرض تكاليف اقتصادية وسياسية كبيرة. وقد اقتنع جوزيف الثاني بكتابات فيلهلم فون دوهن الذي جادل بأنّ الأنظمة القائمة تطوّق اليهود وتجعلهم غير منتجين كمواطنين وكعمّال. لقد قال بأنّ من شأن تحرير اليهود من القوانين التمييزية أن يعزز الاقتصاد.
كانت إصلاحات جوزيف مثيرة للجدل، لكنّ فرنسا الثورية تبنّت سياسة مماثلة، وسرعان ما صدرتها إلى الكثير من بقية أوروبا. وكانت نتائج هذا التحول مثيرة. تمّ في السابق استبعاد اليهود من معظم الصناعات والمهن، وتم منعهم من دخول الجامعات، ومن العمل في القانون، ومن عضوية الطوائف المهنية. واقتصر كنتيجة لذلك عمل اليهود على التجارة مثل إقراض المال أو البيع بالتجوال. وكان أغلب يهود أوروبا الوسطى يعيشون في غيتوات، وكانوا فقراء ومعوزين. تغيّر هذا الأمر بعد الإعتاق، ففي غضون جيلٍ واحد دخل اليهود إلى التعليم العالي والصناعة والتجارة بشكل واسع.
كما أدّت هذه الزيادة في الحرية الدينية إلى تغيير الحياة الثقافية والفكرية لأوروبا. فقد كانت الثقافة الفكرية اليهودية بين العصور الوسطى والعصر الحديث متخلفة من العديد من النواحي عن ثقافة أوروبا المسيحية، بغض النظر عن الاستثناءات أمثال سبينوزا وموسى مندلسون. وقد أدّى إعتاق المجتمع اليهودي الأوربي إلى ازدهار هائل في الإنجاز الفكري والفني بين اليهود، ممّا أدى في النهاية إلى إثراء المجتمع الأوربي.
تمّمت التغييرات الاقتصادية صعود الحرية الدينية، وأبرز هذه التغييرات هي بداية النمو الاقتصادي العصري. وكما في المثال اليهودي، فقد سمحت الحريات الأكبر للأقليات الدينية بالازدهار. جلب البروتستانت الفرنسيون الذين طردهم لويس الرابع عشر معهم مهارات متقدمة وخبرات صناعية إلى إنكلترا وهولندا وبروسيا. وكان الكويكرز وغيرهم من المعارضين الدينيين ممثلين بقوّة في الثورة الصناعية في بريطانيا بين رجال الأعمال والمبتكرين.
كانت العواقب غير المباشرة للانتقال من قواعد الهوية إلى قواعد عامة أكثر أهمية. لقد حدّت قواعد الهوية من نطاق التجارة وتقسيم العمل. فبإزالة قواعد الهوية وفقدان الطوائف المهنية للسلطة وفقدت المدن والسادة قدرتهم على فرض رسوم داخلية على التجارة، توسعت التجارة والتبادلات التجارية.
وأدى نمو التجارة بدوره إلى تعزيز الاتجاه نحو الحرية. فكما جادل مفكرو التنوير أمثال مونتسكيو، فقد شجعت التجارة الأفراد على رؤية العالم من خلال عدسة إيجابية عن تبادل المنافع بدلاً من أن يروها عبر عدسة سلبية من النزاعات. بدأت الحرية تبدو كوصفة لوضعية رابح-رابح، مقابل وصفات مثل الاضطراب الاجتماعي والحرب الأهلية.
5:
ما هي مضامين حجاجنا بالنسبة للعالم المعاصر؟ إنّه الاعتراف بأنّ الأفكار التحررية لم تكن بالضرورة هي المسؤولة عن ظهور المجتمعات المتحررة. بل أنّ صعود نوع جديد من التنظيم السياسي، أي الدولة الحديثة، وبشكل متسق مع كنه وجودها، قاد الحكام إلى فرض قواعد عامّة للسلوك تتنافى مع التمييز الديني.
ينظر البروتستانت غالباً إلى حركة "الإصلاح" كتفسير لأصول الحرية الدينية، لكنّ مثال كالفن وكاستيليو يبينان بأنّ البروتستانتية نفسها لم تعبّر عن الحرية الدينية. وتعزو الأساطير الوطنية الأمريكية أيضاً أصول الحرية إلى المتطهرين "البيورتان" الذين فروا من الاضطهاد في إنكلترا واستقروا في نيو إنغلند. لكنّ المتطهرين كانوا يؤمنون بالحرية الدينية لهم وحسب، وقد كانوا صارمين في تطبيق الانسجام الديني أكثر من العديد من الدول الأوربية. لم يتبع التبني الحقيقي ذو المعنى للحرية الدينية لا من جدال الفلاسفة ولا من طبيعة الإيمان البروتستانتي، بل من استحالة تحقيق الانسجام الديني بعد 1600، حيث بدأت البروتستانتية تنمو وتكبر وتنشقّ إلى طوائف.
وأخيراً، فإنّ تاريخ التحوّل إلى الحرية الدينية يذكرنا بأنّ الالتزام بالقيم التحررية وحدها لا يكفي من أجل ازدهار الحرية. يتطلب الأمر منّا أسس اقتصاديّة وسياسيّة ملائمة. وكما تشير تجربة ألمانيا في الثلاثينيات، فإنّ الاضطهاد الديني قادر على العودة للظهور بسرعة. لا يمكننا أن نعتمد على الأفكار التحررية وحدها لتكون ذات فاعلية، بل علينا أن نعيد النظر في حيوية أسسها المؤسساتية إن كنّا نقدّر الحرية الدينية كما يجب.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني