الأزمة أمريكية... والخليجي ملحق
جاءت الأزمة الخليجية التي انفجرت بشكل واضح خلال الأسبوع الفائت، لتعبِّر مجدداً ليس فقط عن تأزم البنية التابعة تاريخياً للولايات المتحدة الأمريكية التي تعيش تراجعاً حاداً في وزنها الدولي، بل لتشير أيضاً إلى عمق التعفن القائم في العقليات المتخبطة التي تحاول تحليل الأحداث، دائماً وأبداً، بعزلها عن سياقها الموضوعي الذي تجري خلاله.
أعلنت مجموعة من الدول العربية وغير العربية التي تدور في فلك السعودية قطعها للعلاقات الدبلوماسية مع قطر، وفرضت حظراً شاملاً عليها بحجة تمويل الإرهاب وتعاونها مع إيران. وإن كنا لسنا في وارد الدفاع عن قطر، إلا أنَ تحليلاً لأسباب انفجار الأزمة الخليجية لا بد له من أن يمرّ أولاً من نفي الحجتين آنفتي الذكر.
ذرائع عرجاء
بكل تأكيد، ساهمت قطر في تمويل ومد يد العون لعددٍ من المجموعات الإرهابية، وهي في ذلك ليست بعيدة عن السياسات الخليجية التي استخدمت ورقة المجموعات الإرهابية بحثاً عن أوراق ضغط عسكرية تسمح لها بالتثمير السياسي. وليس جديداً بالطبع الدعم الذي قدمته قطر لتنظيم «الإخوان المسلمين»، فما الذي يفسر إذن «الصحوة» الخليجية- الأمريكية ضد التورط القطري في هذه اللحظة بالذات؟
أما عن العلاقات مع إيران، فيبدو الأمر باعثاً على الضحك. إذ أن الأغلبية الساحقة من القوى التي «تعاقب» قطر اليوم، هي ذاتها لا يمكنها أن تحرف نظرها بعيداً عن الحقيقة القائلة: أن إيران لم تعد تلك القوة التي يمكن قطع العلاقات معها نهائياً، وهي ذاتها من تفتح علاقاتها الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة مع إيران.
مما سبق يبدو الاستنتاج واضحاً بأن السببين المذكورين كليهما ليسا على مستوى من الجدية الذي يسمح لهما بأن يكونا السببين الأساسيين لانفجار الأزمة الخليجية. فأين تكمن المشكلة؟
مشكلة السيد... لا التابع
انشغل معظم المتابعين للأزمة الخليجية بـ«النهفات» التي حملها الخلاف بين أعضاء «مجلس التعاون الخليجي»، وحالة الاشتباك الإعلامي (التي تثير بعض الضحك لا شك) بين فضائيتي «العربية» السعودية و«الجزيرة» القطرية. لكن غاب عن انتباه الكثيرين مشهدٌ آخر ربما يصلح مادة للتهكم أكثر من الخلافات الخليجية، وهو مشهد التباين في التصريحات داخل «البيت الأمريكي» الذي بات من الواضح أنه ممزقٌ بين اتجاهين.
فيما كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يعلن أنه «من الجيد أن نرى أن الزيارة إلى السعودية (للقاء) الملك و(زعماء) 50 دولة، تأتي بثمارها بهذه السرعة. قالوا: إنهم سيأخذون موقفاً حازماً من تمويل التطرف، وكانت الإشارات كافة تدل على قطر. ربما سيكون ذلك بداية نهاية رعب الإرهاب»، كان البنتاغون والممثلون الدبلوماسيون الأمريكيون في قطر يعلنون عكس ذلك تماماً، مؤكدين حرصهم على «التعاون مع قطر» والعلاقات القوية معها.
يعكس هذا التباين في المواقف حقيقة الانقسام الجاري في الإدارة الأمريكية، بين التيار الذي يريد الحفاظ على الخليج كمساحة للنهب المتواصل والمستمر، والتيار الآخر الذي يتخبط تحت وقع الأزمة، ويندفع باحثاً عن مستويات نهب «خاطفة» ربما يحققها تصعيد من العيار الثقيل في المنطقة الخليجية. وفي الحالتين، يبدو واضحاً الموقف الأمريكي في أكثر أشكاله تعبيراً عن التراجع، فلا هو قادر على الاستمرار بالسياسات ذاتها من جهة، وليس هنالك ما يضمن له «حرباً نظيفة» لا تعود عليه، هو ذاته، بالضرر من جهةٍ أخرى.
في هذه الحالة، تبرز قطر كحلقة أضعف، من الطبيعي أن تكون «موضوعاً للكباش» الجاري بين الطرفين. لكن السؤال هنا: من يضمن نتائج التصعيد المفترض في الخليج؟ وعلى من ستنعكس هذه النتائج بالدرجة الأولى؟
التصعيد غير محسوم النتائج
ستنال قطر حصتها من هذا الكباش لا شك، لكن المتضرر الأكبر من احتمالات تطور سيناريو التصعيد ربما يتجاوز حدود الخليج ذاته. فلو جرى دفع التصعيد باتجاه الاقتتال الخليجي – الذي يحظى اليوم بمجموعة من بؤر التوتر الجاهزة للاشتعال في أي وقت- سيكون من الصعب بعد اليوم الحديث عن الخليج الذي عرفه العالم منذ منتصف القرن العشرين.
وإذا عدنا قليلاً إلى منطق قوى الحرب الذي تجري على أساسه التوترات في العالم. لوجدنا أن السائد فيه هو تعميم التوترات تحديداً على تخوم حدود الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة. من هنا، يبدو من المنطقي الحديث عن رغبة مفترضة لدى قوى الحرب، لتطوير النزاع الخليجي بما يدفع نحو استدراج إيران للمشاركة فيه، ويقوض الجهود الروسية الصينية المشتركة للتعاون مع دول الخليج بغض النظر عن الخلافات بينها.
إن سيناريو كهذا السيناريو من شأنه أن يتدحرج إلى مواجهة مباشرة لا تضمن القوى التي افتعلتها نتائجها، لا سيما وأن نزاعات أصغر من هذا النزاع سبق وأن أثبتت عجز قوى الحرب عن تحقيق الانتصارات فيها، بل منيت خلالها بتراجعات إضافية منعتها حتى من العودة إلى المربع الأول ما قبل التصعيد.
هنا لا بد من التذكير مجدداً: إن أكبر خطايا دول الخليج، هو التصاقها الشديد بالسياسات الأمريكية في المنطقة، وتراجع الولايات المتحدة يقتضي بالضرورة تراجعات لحلفائها، بغض النظر عن شكل الأزمة المنتجة، سواء اقتصادية أو سياسية. وبما أن الخليج هو الأكثر التصاقاً بالسياسات الأمريكية فإنه المرشح الأكبر كذلك لدفع الضرائب السياسية والاقتصادية المتراكمة في العقود الأخيرة، والناتجة عن حالة التدهور الحاصل في الوزن النوعي للولايات المتحدة.
«ترامبنة» الخليج
حمَّل وزير الخارجية الألماني، زيغمار غابرييل، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المسؤولية عن اندلاع الأزمة الدبلوماسية الخليجية، محذراً مما وصفه بـ«ترامبنة» المنطقة. وقال غابرييل، في حديث إلى صحيفة «هاندلبلاست» الألمانية: «يبدو أنه يراد عزل قطر بصورة أو بأخرى... إن «ترامبنة» العلاقات في المنطقة، التي تعيش أصلاً أزمات مختلفة، تشكل تهديداً خاصاً».
وحذر وزير الخارجية الألماني من «ألا أحد بحاجة إلى التصعيد اللاحق، لأن الشرق الأوسط هو برميل بارود من حيث وجهتي النظر السياسية والعسكرية، والآن تعصف النزاعات الدينية والعرقية والسياسية والعقائدية بالأنظمة الملكية في منطقة الخليج»، وشدد على أن «هذه السياسة خاطئة تماماً وهي ليست بالضبط سياسة ألمانيا»، موضحاً إن «اندلاع نزاع جديد بين الجيران هو آخر ما نحتاج إليه».