انتخاب ترامب: صراع طبقي
يتردد كثيراً على محطات التلفزة الأميركية لمناسبة إعلان النتائج الانتخابية تعبير «الطبقة العاملة» وكيف ثأرت من كلينتون. تحوي هذه الطبقة فئات عريضة من البيض والنساء والسود واللاتينو. لم تصغِ لاعتبارات التمايزات في ما بينها. تضامنت في ما بينها، وكذلك مع الطبقة الوسطى التي تنهار تدريجياً، ما أدى إلى السقوط المروّع للسيدة كلينتون.
بعد الانهيار الرأسمالي المالي وشركات التأمين والصناعة الكبرى في 2008، كوفئت هذه الشركات بتقديمات مالية هائلة من المؤسسة الحاكمة الأميركية. اعتبرت ضخامة الشركات مبرراً للمساعدة على أساس انها «أكبر من أن تسقط» لأن سقوط أي منها يهدد الاقتصاد الأميركي. في ذلك العام والأعوام التالية كافأ مديرو هذه الشركات أنفسهم بعلاوات تبلغ مئات ملايين من الدولارات لكل منهم، وأقل من ذلك لبقية عناصر الإدارة. ذلك مع أنه لم يكن خافياً على أحد أن الكثير من تعاملات وول ستريت، بما فيها تعاملات هذه الشركات، يشوبها الكثير من سوء استخدام قانون الضرائب وسرقة الزبائن والنصب على الشركات الأخرى، كذلك التلاعب بسعر الصّرف بين المصارف الى آخره. لم يحاكَم أحد من إداريي هذه الشركات، بل استمرت في تحقيق أرباح عالية وارتفعت علاوات كبار الموظفين بدل أن تنقص. كان في الأمر تحدٍ وهزء بجميع الطبقات الدنيا. علماً أن نصف الشعب الأميركي، كما غيره، لا يملك شيئاً، وإذا عمل بعضه فإن العمل مؤقت. والطبقة الوسطى فوق هذا النصف يتراجع وضعها باستمرار وهي تخرج تدريجياً من سوق العمل وتنضم إلى صف العمال اليوميين، وكثيراً ما يخسرون بيوتهم، الخ...
مقابل هذا الوضع أصرّت الطبقة الرفيعة والأكاديميا (أساتذة الجامعات) الناطقة باسمها على اعتبار أن الصراع في الولايات المتحدة ليس طبقياً، فقد ولّى هذا الأمر ولم يعد وارداً. التركيز بنظرهم يجب أن يكون على القضايا الثقافية المتعلقة بالتعددية (المهاجرون) والجندر (الحركات النسوية) والعنصرية (السود واللاتينو وغيرهم) والإثنية. لم تصدّق المؤسسة الحاكمة أن حلف الطبقة العاملة سوف يعود. اعتمدت التحليل الثقافوي. جاءت برئيس أسود كترضية. قدّم هذا الرئيس برنامجاً صحياً اعتُبر ضرورياً للطبقة العاملة، بينما كانت هذه الطبقة تصرخ: لا نريد إحساناً نريد وظائف عمل، نريد التعويض بالوظائف على أرضنا عن تلك التي يتم تهريبها مع المعامل إلى المكسيك وشرق آسيا. لا نريد صدقة وإحساناً، نريد عملاً ندفع منه الضرائب، علماً أن الطبقة العليا تتهرب من الضرائب بوسائل يجدها محاموها من خلال ثغرات في القانون.
حاول علم الاجتماع المكرّس لخدمة السلطة في الجامعات فرض الصراع الاجتماعي الثقافوي. قابل الفقراء، والذين يتعرضون للانزلاق إلى مستوى الفقر بالصراع الطبقي. لم تنفع التعمية التي تستخدمها الرأسمالية. ولم تنحجب الرؤية عن الطبقة العاملة. فكان سقوط كلينتون هائلاً ومدوّياً.
اكتشف ترامب ما لم تره كلينتون، أو أن الأيديولوجيا السائدة، الليبرالية الجديدة، أعمتها عن اكتشافه، وهو أن الطبقة العاملة لها وزن فاعل في الانتخابات. ركّز حملته الانتخابية على استرجاع الصناعة الأميركية من المكسيك وآسيا الشرقية ولم يأبه للتمايزات الثقافوية التي تتعلق بالعرف والجندر والإثنية، بل أمعن في الإهانات لكل هؤلاء. بالإضافة إلى كل ذلك، أمعن في إهانة وسائل الإعلام الأميركية، وهذه كانت تعلن هذه الإهانات، على أساس أن أحداً لا يجرؤ عليها، بينما الحقيقة أن كل إهانة لوسائل الإعلام، التي تملك كلاً منها شركةٌ صناعيةٌ أو مالية كبرى، كانت بإعلان اتهامات ترامب تقدم له خدمة مجانية.
ركز ترامب على الشأن الاقتصادي الداخلي. هاجم جميع اتفاقات التجارة الحرة الدولية. هاجم الاتفاق مع إيران. هاجم حلف الأطلسي، طالباً من كل عضو المشاركة بحصته الدفاعية. وعد ببناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، على حساب المكسيك، وعد بمحاكمة كلينتون بعد الانتخابات بسبب فضيحة البريد الإلكتروني، وقدم وعوداً أخرى كثيرة بهدف الدفاع عن الطبقة العاملة الأميركية، الحالية والمقبلة. فيما كان خصومه يقولون لهذه الطبقة: عليكم بالاختراع وإبداع منتجات جديدة كي تحل محل الصناعات التي تم تصديرها. تشتغلون فيها وإلا فإن البطالة مصيركم!
وقالوا لهذه الطبقة عليكم بتعلم تقنيات جديدة لتعملوا في الصناعات الجديدة، وإلا فإن مصيركم البطالة.
ازدادت البطالة بأعداد هائلة وازدادت أعداد الذين غرقوا تحت خط الفقر بعدما كانت أحوالهم جيدة. أُغرقوا بالديون وسُلخت منهم بيوتهم ووظائفهم. لم يخضع دونالد ترامب للتعمية الثقافوية التي حاولت كلينتون ومن وراءها من المؤسسة الحاكمة وأكاديمييها فرضها عن طريق نشر كتب ودراسات عن «صراع الحضارات» ونهاية التاريخ وغيره. ركز ترامب فقط على فرص العمل والبطالة وهاجم كل ما يعيق ذلك من الفئات التي يمكن أن تتجاوب مع الدعاوى الثقافوية. وحقق هذا الانتصار الكبير، برغم البذاءة وقلة الأخلاق والابتذال وما شاب حملته من اتهامات للغير غير مسبوقة، وبرغم فضائح تهربه من الضرائب لعقود من السنوات، وإفلاساته الاحتيالية المتعددة، وتحرشه المتكرر بالنساء، وإهاناته المتكررة للعرب والمسلمين وكل الآخرين من غير العرق الأبيض الأميركي. لم تكن معركته ثقافوية بل طبقية.
الغريب أن الطبقة العاملة من جميع الإثنيات ومن النساء قد أسلسوا له قيادهم. هذا صراع طبقي لم نر مثيلاً له في السابق. يبدو أن فهم الصراع الطبقي في أميركا والعالم يحتاج إلى أدوات تحليلية جديدة، كما يبدو أن رسائل التعمية الثقافوية المستخدمة تحتاج إلى مواجهات ثقافية وتحليلية لمعرفة زيفها. عند الطبقة العاملة الأميركية لا شيء له معنى إلا وظائف العمل الضائعة، لا شيء له معنى حالياً إلا الصراع الطبقي. هذا ما أدركه ترامب ولم يدركه خصومه. فاز بالانتخابات وسقط غيره.
يبقى السؤال: هل سيحقق ترامب ما وعد به في السياسة الخارجية أم أن ذلك سيكون متروكاً لوزارة الدفاع وغيرها من مؤسسات الايستابلشمانت؟ هذه التغييرات، إذا حققها ترامب سوف تحدث تغييرات كبيرة في العالم. فهل سيقدم عليها، أو هل سيقدر على ذلك؟
المصدر: جريدة السفير