العصر الكربوني الثالث (1/2)
عندما نريد التحدث عن الطاقة والاقتصاد في فترة التغيّر المناخي التي نعيشها، سنجد بأن كل التصورات السائدة حول هذين الموضوعين مختلفة عمّا كنا نظنه، حيث يعتقد أغلبنا بأن «العصر الكربوني الثاني*» سيتم استبداله قريباً بما أصبح يُعرف بـ «عصر الطاقة المتجددة»، أي كما حدث سابقاً حين حلّ النفط بديلاً عن الفحم كمصدر رئيسي للطاقة في العالم.
تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن قضية مصادر الطاقة في خطابه في حزيران الذي ألقاه حول التغيّر المناخي حيث قال:«سيكون هناك حاجة لاستخدام الوقود الإحفوري* لفترة أطول قليلاً، إلا أن عملية استبداله بمصادر الطاقة المتجددة المختلفة لن تطول».
عصر النفط والغاز غير التقليديين
يتفق العديد من المختصين مع وجهة النظر هذه، ويؤكدون بأن زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي «النظيف» بالترافق مع الاستثمارات المتزايدة في مجالي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ستكون كفيلةً بتأمين انتقال سلس نحو مستقبل من «الطاقة الخضراء»، تتوقف فيه البشرية عن إطلاق غاز ثاني أوكسيد الكربون والغازات الدفيئة* باتجاه الغلاف الجوي لكوكبنا.
إن كل ماسبق يبدو رائعاً بالفعل، إلا أن هناك مشكلة تتمثل بأن القائمين على صناعة الطاقة لم يقوموا حتى الآن بأية استثمارات مهمة في مصادر الطاقة المتجددة. فعلى العكس من ذلك، تقوم هذه الصناعة الآن بضخ أرباحها التاريخية في مشاريع جديدة لاستخراج الوقود الإحفوري، وهذه المشاريع تقوم أساساً على استغلال ما يُسمى بالاحتياطات النفطية والغازية «غير التقليدية». إن استمرار هذا الأمر لن يودي بالبشرية للذهاب نحو عصر تسوده مصادر الطاقة المتجددة، بل سينتج عنه اتجاهها نحو عصر كربوني ثالث ولكن من نوع آخر وهو «عصر النفط والغاز غير التقليديين».
لقد ازداد استعمال تقنية «التكسير المائي»* اليوم أكثر من أي وقت مضى في مناطق متعددة كالولايات المتحدة الأمريكية وعدد متزايد من الدول الأجنبية، وفي الوقت ذاته، تشهد عمليات التنقيب عن النفط الثقيل و«الرمال القطرانية القذرة»* تسارعاً كبيراً في بلدان مثل كندا وفنزويلا ودول أخرى.
على الرغم من أننا لا نستطيع - في المقلب الآخر - إنكار ما يتم من إنشاء لمزارع الرياح* وألواح الطاقة الشمسية، إلا أن هذا لا يغير من حقيقة أنه ومن المتوقع أن تتجاوز كمية الاستثمارات المخصصة لاستخراج الوقود الإحفوري ذات الطابع غير التقليدي مثيلاتها المخصصة لمصادر الطاقة المتجددة بنسبة لا تقل عن ثلاثة إلى واحد - 3 أضعاف - خلال العقود القليلة القادمة.
ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة (IEA)*، فقد بلغ مجموع الاستثمارات العالمية المرصودة لاستخراج ومعالجة الوقود الأحفوري ما يقارب (22.87) تريليون دولار بين عامي 2012 – 2035. في حين أن الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة والطاقتين الكهرومائية والنووية لن تتجاوز(7.32) تريليون دولار.
هذا وسيبلغ الاستثمار في النفط وحده خلال المدة ذاتها 2012 - 2035 حوالي (10.32) دولار، أي ما يفوق الإنفاق على كل من الطاقات الريحية والشمسية والمائية والنووية والحرارية الأرضية إضافة إلى الوقود الحيوي وكل أشكال الطاقة المتجددة الأخرى مجتمعة !!
إن إمدادات العالم من النفط والغاز التقليديين* تنفد بسرعة كبيرة مع ازدياد الطلب العالمي على الوقود الإحفوري حيث من المتوقع أن يرتفع بنسبة 26% بحلول عام 2035، أي أنه ينبغي توفير المزيد من إمدادات الطاقة غير التقليدية لتكفي حاجة الاستهلاك العالمي.
لقد بات من المؤكد أن انبعاثات الكربون العالمية ستفوق أسوأ توقعاتنا الحالية، وبالتالي فإن موجات الحرارة الشديدة ستصبح أمراً مألوفاً كما سيتم إلحاق الضرر بالمزيد من المناطق البرية المتبقية لدينا، وسيصبح كوكبنا مكاناً أكثر قسوة بشكل قد لا نستطيع تصوّره، وهذا يدفعنا لإجراء بحث معمق بهدف كشف الأسباب التي أوقعتنا في هذا المأزق.
العصر الكربوني الأول
بدأ هذا العصر في أواخر القرن الثامن عشر مع اختراع المحركات البخارية التي تعمل بالفحم، التي انتشرت لاحقاً على نطاق واسع بحيث اعتمدتها جميع المؤسسات الصناعية على اختلاف اختصاصاتها.
لقد اقتصر استخدام الفحم في البداية على تشغيل المنشآت الصناعية ومصانع النسيج، ثم ما لبث أن انتقل ليُستعمل في مجالات جديدة ومتنوعة كوسائل النقل - السفن البخارية والسكك الحديدية - والتعدين وإنتاج الحديد بنطاقه الواسع.
في الواقع، فإن ما نسميها اليوم بالثورة الصناعية قامت وبشكل كبير بالاعتماد على تفعيل التطبيقات المتزايدة للطاقة البخارية والفحمية على الأنشطة الإنتاجية المختلفة. وفي نهاية المطاف تم استخدام الفحم لتوليد الطاقة الكهربائية وهو الأمر الذي لا يزال سارياً إلى يومنا هذا.
لقد شهد هذا العصر تحديداً قيام جيوش كبرى من العمال المضطَهدين والبائسين ببناء السكك الحديدية ومصانع النسيج العملاقة على امتداد القارة الأوروبية بأكملها، إضافةً للنمو الكبير الذي شهدته المدن وانتشار ما كان يعرف حينها بالبلدات الصناعية.
كما شهد هذا العصر أكبر توسعٍ للإمبراطورية البريطانية، حيث كانت بريطانيا العظمى ولفترةٍ لا بأس بها تتمتع بصفات مترابطة كثيرة ضمنت لها الريادة العالمية من حيث كونها أكبر منتج ومستهلك ومصنّع للفحم وأكثر الدول تطوراً في مجال الابتكار الصناعي، ناهيك عن قوتها العسكرية والسياسية الكبيرة.
لقد تمكّنت هذه الجزيرة الصغيرة - بريطانيا- الواقعة قبالة سواحل أوروبا من مراكمة ثروة هائلة وتطوير أكثر الأسلحة تقدماً في العالم والتحكّم بالممرات البحرية العالمية عبر سيطرتها على تكنولوجيا الفحم الحديثة في حينها. إلا أن تكنولوجيا الفحم هذه والتي منحت بريطانيا الميّزات العالمية التي ذكرناها سابقاً، أدت إلى التسبب ببؤس وشقاء كبيرين في فترةٍ لاحقة.
يتناول الخبير الأمريكي في مجال الطاقة بول روبرتس في كتابه «نهاية النفط» موضوع الفحم الذي كان يُستخدم في إنجلترا قائلاً :«لقد كانت بريطانيا تعتمد على ما يُعرف بـ «الفحم البني» وهو أحد أسوأ أنواع الفحم، حيث كان يحتوي على نسبة كبيرة من الكبريت وغيره من الشوائب التي كانت تتسب عند احتراقها بتشكّل دخان خانق ووخز في العينين والرئتين إضافةً إلى تفحّم الملابس والجدران بسببه»، ويضيف روبرتس:
«مع نهاية القرن التاسع عشر، وصل الهواء في لندن وغيرها من المدن التي تعمل بالفحم إلى درجة عالية من التلوّث ماتت معها الأشجار وانحلّت الواجهات الرخامية، ناهيك عن تفاقم أمراض الجهاز التنفسي لتتحول إلى وباء حقيقي».
لقد شكّل استبدال الفحم بالنفط والغاز هبة حقيقيةً من السماء لكل من بريطانيا العظمى والدول الصناعية الأخرى، حيث سمحت عملية الاستعاضة هذه بتحسين نوعية الهواء في هذه الدول عبر تقليل نسبة التلوث فيه، إضافة إلى الحد من أمراض الجهاز التنفسي التي كانت تنتشر بكثرة فيها. إلا أن هذا لم يعن انتهاء عصر الفحم، فمازال الفحم حتى يومنا هذا يعتبر المصدر الأساسي للطاقة في بقاع واسعة من العالم كجمهوريتي الصين الشعبية والهند، وبالتالي، فإن مدن هاتين الدولتين هي بمثابة نسخة القرن الواحد والعشرين من المدن البريطانية في القرن التاسع عشر.
هوامش :
- العصر الكربوني الأول: الفحم - العصر الكربوني الثاني: النفط - العصر الكربوني الثالث: الطاقة المتجددة.
- يتألف الوقود الأحفوري من النفط والفحم الحجري والغاز الطبيعي.
- الغازات الدفيئة: توجد في الغلاف الجوي وتمتص الأشعة تحت الحمراء مما يؤدي لتسخين الجو ونشوء «الاحتباس الحراري».
- التكسير المائي: تحطيم الصخور التي تحتوي على النفط والغاز عبر ضخ المياه عليها بضغط عالي جداً.
- الرمال القطرانية القذرة: خليط من الرمال والطين والماء مع طبقة كثيفة ولزجة من البترول رائحته كرائحة القطران.
- مزارع الرياح: مجموعة من طواحين الهواء تنصب في موقع معين لتوليد الطاقة.
- النفط والغاز التقليديان: أنواع الوقود المشتقة التي تُستخرج بواسطة تجهيزات بسيطة.
- الوكالة الدولية للطاقة: منظمة حكومية دولية للبحوث مقرها باريس.
معلومات إضافية
- ترجمة:
- نور طه