الأردن بين الخضوع والرفض: أول الرقص حَـنـْجَلة
يستطيع النظام الأردني أن يختلق أي أعذار يُريد لتبرير سياسات لا تحظى بشعبية أو قبول بين أوساط الأردنيين. ومحاولة إطلاق بالونات اختبار تمهيداً لدراسة ردود الفعل لتلك السياسات هو أسلوب قديم ومعروف ولا يَخـْفـَى عن معظم الأردنيين. حديثنا هذا لا يتعلق بسياسات ذات أبعاد محدودة وآثار محلية، ولكنه يتعلق بتنفيذ أو المساهمة في تنفيذ مخططات وسياسات وضعتها دول أجنبية قد تؤدي إلى تدمير الاستقرار الإقليمي وتفتيت دُوَل عربية محورية، الأمر الذي إذا ما تم فإنه سوف يُحَـوﱢل الأردن إلى دولة مرهونة بالكامل وبشكل علني لإسرائيل، ويجعل من أمنها وبَقائِها واستمرارها أمراً بيد إسرائيل تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء ومتى تشاء.
هذا الحديث يهدف إلى التحذير من تبعات القبول بسياسات مفروضة من قوى أجنبية ناهيك عن تنفيذها متعللين بالضعف وعدم إمكانية التصدي لتلك السياسات. القضية الأساس إذاً هي موضوع الخضوع والاستسلام لإرادة الأجنبي بشكل قـَدَري وكأنه لا خيار آخر أمام العرب إلا القبول، وهذا افتراض خاطئ. ففي حين فشلت معظم الدول العربية في رفض الخضوع لإرادة الأجنبي وعدم الانصياع لها، فإن التطور في مواقف وسلوك تنظيمات ساهمت أمريكا في خلقها مثل القاعدة وداعش يعطي مؤشراً على امكانية التصدي لإرادة الأجنبي ومخططاته اذا ما تعارضت مع المصالح الذاتية. فهذه التنظيمات التي خُـلِقـتْ لخدمة أهداف وتصورات معينة، تـَصَرﱠفـَتْ في السياق الطبيعي لتطور الأمور وتمردت أحياناً ونجحت بالتالي في فرض نفسها على الأحداث بغض النظر عن الوسائل التي تتبعها أو الأهداف التي تنشدها.
وهكذا، فإن ما يُدعى بالتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش تقدم مثالاً عملياً وواضحاً على القدرة على رفض ما هو مفروض عليها بل والقتال ضده إذا كان ذلك يتعارض ومصالحهـا. ومع أن كلا التنظيمين صناعة أمريكية فإن ذلك لم يشكل عقبة أمامهما لرفض إطاعة بعض التعليمات الصادره عن أمريكا أو تجاهلها أو التصدي لها ومقاتلتها أحياناً بعد أن إشتد عودها وشَـبـﱠتْ وخرجت بالتالي عن الطوق وأصبحت تنظر إلى مصالحها أولاً بغض النظر عن كونها خرجت من رحم الرؤيا والتخطيط الأمريكي. وإذا كانت التنظيمات المارقة قادرة على فِعْل ذلك لحماية مصالحها، فلماذا تتذرع دول عربية عديدة بعدم قدرتها على التصدي لإرادة الأجنبي ومخططاته لحماية مصالحها الوطنية ؟
يشكل موقف تنظيمات مثل داعش والقاعدة مثالاً للأنظمة العربية على إمكانية أخذ مواقف رافضة بل ومقاوِمة لمخططات أمريكا للمنطقة، وهي تعطي بذلك مؤشراً على أن التبعية والعمالة لأمريكا يجب أن لا تشكل عذراً للانصياع الكامل لإرادتها في تنفيذ مخططات تتعارض والمصالح الخاصة بها.
إن اللجوء إلى مثال متطرف مثل القاعدة أو داعش لا يشكل أرضية لإبراء ذمة تلك التنظيمات من أعمال الإجرام والخيانة، وإنما لتأكيد أن الضعف أو التبعية والعمالة يجب أن لا تشكل عذراً للانصياع الأعمى لرغبات أمريكا وأنه يوجد مجال وإمكانية لمقاومة الضغوط القادمة من الخارج، وأن على الدول العربية أن تأخذ عبرة من تلك التنظيمات لاتخاذ القرارات التي تنسجم ومصالحها.
إن القوة الكامنة في الرفض هي أهم بكثير من الضعف الكامن في الرضوخ حتى لو كان الثمن المباشر لذلك تضحيات في الجسد والروح والممتلكات، إذ نادراً ما تنتهي الأمور تماماً كما يُخـَطـَطـْ لها خصوصاً إذا كان مثل ذلك التخطيط قادماً من خارج حدود الوطن. فالرضوخ لإملاآت جهات خارجية والتعامل معها بطريقة قـَدَرية يساهم بالضرورة في نجاح المخططات المرتبطة بتلك الأملاآت بشكل فـَعـﱠال، وفي هذا رسالة واضحة إلى الشعوب. فإرادة أمريكا أو إسرائيل ليست قدراً لا مفر منه، وإذا ما اختار الحكام سبيل الاستسلام القـَدَري لإرادة الآخرين فهذا يجب أن لا يُفرض على الشعوب بصورة حتمية.
لقد أُخْضِعَتْ الشعوب العربية بشكل يكاد أن يكون كاملاً إلى عملية تدجين ومصادرة الإرادة على مدى عقود حتى أصبحت طاعة أُولي الأمر هي أساس النظام السياسي والعِقـْدُ الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي. وإذا كان في ذلك ظلماً للشعوب وإجحافاً بحقوق المواطنين، فإن ذلك كان محصوراً في البدايات في إطاره المحلي كون الأنظمة كانت مهتمة بتثبيت أوضاعها في الحكم أولاً وقبل كل شيء، أما أن يصبح هذا هو واقع الحال في التعامل مع برامج خارجية قاتله تهدف إلى تفتيت المنطقة إلى كيانات صغيرة مذهبية وطائفية تصب في مصلحة إسرائيل فهذا أقرب إلى الانتحار وعلى العرب رفضه والتصدي له لأن نجاحه يعني موت الهوية العربية.
يقف الأردن الآن على مفترق طرق في غاية الخطورة، والخيارات الأردنية لكيفية التعامل مع التحديات المطروحة أمامه سوف تحدد مستقبله. ومن الخطأ الافتراض أن الأردن عاجز عن مقاومة ما هو مطلوب منه أو مفروض عليه من قوى خارجية غربية وعربية، خصوصاً إذا كان ذلك سيؤدي إلى المساهمة في تفتيت وتقسيم دول عربية محورية مجاورة له مثل سوريا والعراق. فهذا من شأنه أن يخلق سابقة في هدم النظام العربي بأيدٍ عربية وإخلاء ذمة الأجنبي من تلك المسؤولية وتحويلها إلى قضية عربية القاتل فيها عربي والمقتول عربي، وعلى الأردن أن يختار بين أن يكون رافضاً أو عاجزاً أو راغباً، والفرق بينهم كبير. وعملية تزويد الأردن بالسلاح الأمريكي الجارية الآن لا تشكل رشوة للأردن بقدر ماهي ترجمة لحجم التورط الأردني في تنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة.
ولكن الأمور لا تقف عند حدود الأردن وما يُناط به. فالعرب الآن في مأزق يتفاقم يوماً بعد يوم، فهم تحت ضغط يومي بأن أمة العرب قد انتهت وبأنه لا يوجد عرب أو أمة عربية، والشعوب العربية تتعرض لعملية غسيل دماغ مباشرة ومستمرة تهدف إلى اقناعهم بأن العروبة قد انتهت وأن عليهم القبول بهذا المصير كأمر واقع حتمي لا مناص منه، وأن عليهم التكيف مع هذا الواقع الجديد وليس رفضه أو العمل ضده. وقد بدأت تصدر عن العديدين نغمات بأن العروبة قد انتهت وأن مخرجات سايـكـس – بيـكو قد انتهت، دون أنْ يُقـﱢدروا أنﱠ من رفع شعار إلغاء مخرجات سايكس – بيكو هم أمريكا والغرب وليس العرب.
العرب لا يعلمون حقيقة ما الذي سيترتب على إلغاء سايكس – بيكو. صحيح أن إلغاءها كان مطلباً عربياً قبل أكثر من سبعة عقود ولكن ذلك كان لصالح دولة الوحدة العربية ورفضاً لفصل فلسطين عن الحاضنة العربية تمهيداً لإعطائها للحركة الصهيونية. ولكن ما هو المكسب للعرب من إلغاء مخرجات سايكس – بيكو الآن وهي تحديداً دول سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين، علماً أن باقي الدول العربية لم تكن من مخرجات سايكس – بيكو ولكن من مخلـﱠفات حقبة الاستعمار، مما يؤشر على أن المخطط المرسوم للمنطقة أكبر من سايكس – بيكو.
لا يوجد في الحقيقة أي مكسب من إلغاء مخرجات سايكس – بيكو لأن ما نحن بصدده هو مزيد من التفتيت لتلك المخرجات، وبهذا تصبح تلك المخرجات المراد تدميرها أفضل بكثير مما نحن بصدده. إنﱠ تفتيت المنطقة لن يعود على أهلها بأي خير بل على العكس فهو خطوة إلى الوراء، تهدف إلى إعادة تشكيل دول المنطقة حتى تصبح دويلات مذهبية أو طائفية صغيرة لتناسب حجم الكيان الإسرائيلي وهويته الدينية، وبذلك تصبح دويلات النظام السياسي الجديد، وهو الوريث للنظام العربي الحالي، في خدمة إسرائيل وأهدافها شاؤوا ذلك أم أَبوا. وسوف تسبح تلك الدويلات بالنتيجة في الفلك الإسرائيلي.
أما التطور الأخطر فيتعلق بالهوية العربية الجامعة وهي المستهدف الأهم مما يجري. فإذا ما فقد العرب عروبتهم وأصبحوا بلا هوية، فإن إسرائيل سوف تستبدل حالة العَدَاءِ العربي بحالة من التبعية دون أن تخوض أي حرب من أجل تحقيق ذلك. فهزيمة العرب سوف تكون ذاتية وطوعية وبأيدٍ عربية من خلال اختفاء الهوية العربية وبالتالي حالة العَدَاءِ العربي لإسرائيل، وسيبقى الفلسطينيون أصحاب الأرض والقضية لوحدهم يواجهون مزيد من الأعداء والتحديات .
إن قضايا المنطقة في ازدياد، واللاجئون في ازدياد، والحقوق والآمال في تناقص. فالعرب الآن أصبح لديهم قضايا بعد أن كان لديهم قضية أساسية واحدة هي قضية فلسطين، كما أصبح لديهم العديد من اللاجئين من أصول مختلفة بعد أن كان لديهم اللاجئون الفلسطينيون فقط، أصبح لديهم قضية العراق وقضية سوريا ولبنان وليبيا واليمن والحبل على الجرار، وأصبح لديهم أيضاً مشكلة اللاجئين العراقيين والسوريين والليبيين واليمنيين والحبل على الجرار أيضاً.
إن ما نحن بصدده يتطلب العمل على رفض ومقاومة كافة الضغوط المرافقة لمخططات واردة من خارج المنطقة وخصوصاً من الولايات المتحدة. فمقاومة تلك الضغوط ورفض المخططات المرافقة لها هي الخطوة الأولى والأساس لحل مشاكل المنطقة العربية والحد من التدخل الإقليمي والدولي في شؤونها.