هزيمة محتملة للتوحش الرأسمالي
فيصل جلول فيصل جلول

هزيمة محتملة للتوحش الرأسمالي

على هامش الاستفتاء حول أزمة الديون اليونانية والمقترحات الأوروبية لمعالجتها نشرت وسائل الإعلام شهادات مذهلة حول المجاعة التي تطال عائلات يونانية بالجملة، وتصيب أطفالاً في المدارس لا يتناولون الوجبات كاملة.

ومن بين الشهادات واحدة تتحدث عن متقاعد في أواسط السبعينات من العمر يتقاضى 500 يورو شهرياً بالكاد تغطي نفقات الطعام في بيته.

كان عليه خلال الأيام الماضية أن يسحب من أحد المصارف 125 يورو لتلبية نفقات الأسبوع، لكنه لم يفلح لأسباب عديدة وبما أنه لا يملك بطاقة ائتمان لا يستطيع دفع ثمنها فقد فشل في الحصول على ما يريد وانهار أمام الجميع آخر النهار وهو يصرخ في بهو أحد المصارف.
أثارت شهادته وسائل الإعلام، فروى ظروف حياته الصعبة وقال إن جيرانه يلجأون للاستجداء كي لا يموتوا جوعاً وإن آخرين انتحروا وهكذا دواليك. هذا عن كهل متقاعد أما العاطلون عن العمل والذين تجاوزت نسبتهم ال 26 في المئة من السكان فهؤلاء لا يختلف بؤسهم عن بؤس المتقاعد المشار إليه بل ربما ينحدر إلى الأسوأ..

يحدث هذا في أوروبا أي في القارة التي يبلغ عدد سكانها 7 % فقط من حجم سكان العالم ، بينما تحتكر 25 % من الثروة الكونية وتنفق 50 % من مجمل إنفاق العالم على الشؤون الاجتماعية، وذلك بحسب المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل التي أذاعت هذه الأرقام للقول إن أوروبا هي أكثر مناطق العالم إنفاقاً على المجتمعات، وبالتالي لا يمكن أن تلام على انتشار ما يشبه المجاعة في اليونان، معتبرة أن الأمر يتعلق بسياسة اليكسيس سيبراس ووزير ماليته يانيس كوروفاكيس أو من سبق، في حين يرى خبراء الاقتصاد المحايدون أن جذور المشكلة تعود إلى اندماج اليونان في منطقة اليورو واعتمادها على مجموعة «غولدن ساكس» المالية التي كانت تحكم العالم تقريبا قبل أزمة الأسواق الشهيرة عام 2008.
فقد نصح خبراء المجموعة المذكورة الحكومة اليونانية بمخطط ينطوي على الكثير من المعطيات والحسابات الكاذبة والمبنية على الفساد فكان أن دفع اليونانيون والبسطاء منهم بصورة خاصة ثمن عملية احتيال تاريخية وما زالوا يدفعون حتى اليوم.
في عهد حكومة سيبراس الذي انتخب في يناير/ كانون الثاني الماضي تغير الحال تماماً فما عاد النصابون يتولون الحكم في أثينا وصار على المؤسسات المالية الأوروبية والدولية أن تتعاطى مع حكومة من الشبان محملة بمشاعر يسارية راديكالية وبرغبة صادقة بإنقاذ البلاد من الانهيار الحتمي واقتصادها من التبخر.
أمضى سيبراس الوقت الأطول من عمر حكومته بالتفاوض دون جدوى مع الهيئات المالية في الاتحاد الأوروبي إلى أن وضع مؤخراً أمام الأمر الواقع المرير أي الخروج من اليورو أو القبول بالخطة الأوروبية لتسديد الديون فكان أن فاجأ الجميع بالدعوة إلى استفتاء عام حول المقترحات التي رفضها اليونانيون الأحد الماضي بأغلبية تجاوزت ال 61 في المئة وقلب بذلك قواعد اللعبة.. إذ صار على أوروبا أن تحدد ما ينبغي عمله: تطبيق تهديداتها قبل الاستفتاء وبالتالي الامتناع عن تزويد اليونان بالسيولة اللازمة لدفع رواتب موظفيها وتغطية نفقاتها العامة.. أو التنازل أمام قوة الاستفتاء اليوناني وبالتالي إنقاذ العملة الأوروبية من الهلاك، ذلك أن خروج اليونان لن يكون نهاية المطاف فالحال الاقتصادية ليست مزدهرة في الكثير من بلدان القارة التي يمكن أن تعلن عن عجزها عن تسديد ديونها وتتسبب بانهيار منطقة اليورو.
أكبر الظن أن التسوية هي الخيار الأفضل للطرفين شرط أن تتناسب مع السقف المرتفع الذي وضعه اليونانيون في استفتائهم ومع التصلب الذي عبر عنه عدد من المسؤولين الألمان قبل وبعد الاستفتاء، معتبرين أن سيبراس أخرج بلاده من منطقة اليورو عبر الاستفتاء وهذا يعني أن التسوية يجب أن تقع بين الأقصيين.
وإذا كان من الصعب التحكم مسبقاً بكل مجرياتها فالثابت فيها أن خروج اليونان سيؤدى حتما إلى انهيار منطقة اليورو، وبقائها فيها بشروط سيجعل هذه المنطقة تحت رحمة الاستفتاءات القادمة من دول أخرى يقول أصحابها ما دام سيبراس قد نجح في مواجهة جبروت العملاق الألماني..فلماذا لا ننجح نحن أيضاً ولعل هذه السيرورة إن تمت ستؤدي إلى إضعاف العملة الموحدة.
ما من شك في أن الحل الوسط يمر أولاً باستقالة وزير المال اليوناني يانيس يوروفاكيس وقد قدم استقالته بعيد ظهور نتائج الاستفتاء في خطوة تكتيكية ماهرة باعتبارها تنازلاً للأوروبيين الذي كانوا يعبرون عن امتعاضهم من وزير يحتاج اليهم لحل مشاكل بلادهم، ولكنه لا يتردد بوصفهم بالإرهابيين وعندما يغضب يطرق بيده بقوة على الطاولة ويتلفظ بعبارات هجومية وشخصية أحياناً.
لقد أحسن اليكسيس سيبراس باستخدام الديمقراطية بضاعة بلاده التاريخية في مقاومة جبروت الرساميل الأوروبية المتوحشة التي لم يكفها حتى الآن تجويع أطفال المدارس والمتقاعدين بل تريد من المخطط الجديد لتسديد الديون الاسترسال في جشعها غير عابئة بأن يتضاعف حجم الجوعى على مقربة من ثروات هي الأضخم والأهم في تاريخ الثراء في هذا العالم.
يبقى أن تسيبراس جيفاري النزعة وقد حمله إعجابه بال «تشي» على تسمية ابنه البكر «أرنستو» ناهيك عن انتمائه لأسرة من خارج نادي الأسر السياسية التقليدية في أثينا.. كل ذلك يشكل ضمانة جدية لخوض معركة حماية مواطنيه من الجوع حتى نهايتها.
فقد انتخب لهذه الغاية والذين انتخبوه كانوا يعرفون انهم يلعبون ورقة رابحة سواء بقيت بلادهم في أوروبا بشروطهم أو خرجت منها بشروطها أيضاً..
في فكره الاقتصادي كان جيفاراً يقول إن الانتاج يجب أن يكون أولاً وأخيراً لخدمة الإنسان.
تسيبراس يعتقد أنه لخدمة الجوعى في بلاده ويتأهب لقهر التوحش الرأسمالي بهذا التصميم أو أقله منعه من التهام لقمة اليونانيين.

 

المصدر: الخليج