من تجليات الأزمة السورية
ناقشنا في مواضيع سابقة بنية الاقتصاد السوري وكيفية تحوّله إلى اقتصاد السوق الحر، وكيف انعكس ذلك بأشكال ومستويات سلبية متباينة على القطاعات الإنتاجية والبنى الهيكلية للاقتصاد، وعلى أسواق العمل ومعدلات البطالة والأجور والأسعار والتضخم وقيمة الليرة ومستوى المعيشة.
وتزامنت تلك التحولات مع انكشاف بنية السلطة السياسية عن التفرّد بالقرار السياسي وإقصاء القوى السياسية المعارضة، واحتواء النقابات، وإغلاق أبواب حرية التعبير. فكانت تلك التجليات تعبيراً عن البنية الأحادية للسلطة، وعن هيمنة التجار والمستثمرين وبعض المتنفذين على ناصية القرار. فكانت البنى الاجتماعية رهينة تقاطع التخلف والنهب والتخلّع الهيكلي للبنى الاقتصادية والاحتكار السلطوي مع تدخلات رأسمالية إمبريالية.
معلوماً أن استطالة الصراع ساهم في تدمير البنى التحتية للاقتصاد، وفي خسارة الحكومة للعديد من المدن والمحافظات التي تحتوي على مصادر الثروة، فلجأت إلى الاعتماد على التجّار لاستيراد احتياجات الأسواق من المواد والسلع.
في السياق ذاته، فإن انحسار سيطرة الدولة عن أجزاء كبيرة من الأراضي ساهم في ارتفاع معدلات الهجرة إلى المدن المستقرة مثل اللاذقية وطرطوس وبعض المناطق في حماه ودمشق. وكان لذلك دور كبير في ارتفاع الكثافة السكانية وزيادة أعباء الحكومة. لكنَّ تخليها عن دورها الاجتماعي واعتمادها على جيوب الفقراء ومصادر دخلهم التي تزداد تأكلاً، لتعويض تقلّص مصادر دخلها، قابله تمدد مافيات التجارة السوداء. هذا في وقت «تغضُّ النظر» عن تجّار الحروب والأزمات ونهابي قوت الشعب وسارقيه الذين باتوا يمتلكون مئات الملايين من الدولارات.
وهؤلاء يدعون الله ألا تنتهي الأزمة، وربما يساهمون في إطالة أمدها، إضافة إلى ذلك فإنهم يتحكمون بمعيشة السوريين. وتتزامن تلك التحولات مع زيادة في حجم الدين الخارجي وانخفاض الاحتياطي من القطع الأجنبي، وذلك نتيجة تراجع حجم الإنتاج الصناعي والزراعي، وبشكل خاص النفطي، وخروج آلاف القطاعات الخدمية عن العمل وتحديداً السياحية. وأدى ذلك إلى توقف الصادرات واعتماد الحكومة على الاستيراد من الدول الداعمة لمواقفها السياسية.
إن تأكيد أن مآل التحولات التي يخضع لها الاقتصاد السوري تميل إلى النيو ليبرالية، لم يعد كافياً. ذلك نتيجة ظهور أشكال من العلاقات الاقتصادية المشوّهة التي تفرض وجودها بقوة المال والسلاح. وبالرغم من أن استمرار تلك الأشكال مرهون باستمرار الصراع. لكن من الممكن ألا تنتهي بانتهائه وذلك يرتبط بعدّة عوامل منها: طبيعة ومآلات التحولات السياسية والميدانية وقدرة تلك الأشكال على التكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المستقبل.
في ذات السياق، فإن اعتقاد الفئات الحاملة لاقتصاد العنف بانتهاء دورها مع نهاية الصراع يدفعهم إلى توظيف كامل قدراتهم العنفية لاستغلال ونهب السوريين ومقدرات الدولة. وخطورة هؤلاء تتعدى اللحظة الراهنة، تحديداً إذا لم يُحاكموا على الجرائم التي يرتكبونها. فجيوب السوريين مفتوحة بالقوة لصالح هؤلاء، ويتجلى ذلك من خلال الخطف والنهب والقتل والتعفيش. وتلك الأشكال تحقق دخلاً خرافياً من دون الحاجة إلى رأس مال، فقط تحتاج إلى امتلاك السلاح والتستّر بالولاء، والتنسيق مع بعض الشخصيات النافذة لتأمين الحماية من المساءلة. وتكشف الوقائع أن جرائم تلك الفئات تتجاوز حدود مناطقهم. وبعد امتلاك زعماء ها ثروات طائلة، فإنهم يشتغلون على تنظيف أموالهم القذرة في مشاريع عقارية وشركات استيراد وتصدير، ومشاريع وهمية. ومع ذلك ما زالوا يركّزون على امتلاك مصادر القوة والسطوة، وتحديداً السلاح والعناصر الموالية لهم. هذا في وقت ما زالت تقوم فيه بعض الجماعات والعناصر المنضوية تحت لواء القوى المساندة للجيش بعمليات تعفيش المناطق التي يحررها الجيش السوري. ويبررون جرائمهم بأنها تستهدف ممتلكات المعارضين وبيئاتهم الحاضنة. في المقلب الآخر فإن زعماء وعناصر من «المعارضة المسلحة» يمارسون ذات الارتكابات ويبررونها بأنها تستهدف الموالين للنظام. وهذا يعني أن نهب الممتلكات العامة والخاصة والشخصية، يتم تبريره بأشكال أكثر وحشية وبربرية. وهذا يستدعي تأكيد أن السرقة والقتل والخطف والتعفيش والنهب أياً كانت مبرراتها وكائناً من كان مرتكبها، فهي جرائم تستحق المحاكمة والعقاب. وفي مناطق مستقرة أو شبه مستقرة تحولت تلك الجماعات أو بعضها أو بعضاً من عناصرها، إلى مافيات تحت مسميات الولاء والوطنية. ويقومون في بعض اللحظات بأدوار القوى الأمنية. فيعتقلون ويخطفون ويعاقبون الخ... ويعملون على تطويع القضاء لتحقيق مصالحهم. ومن المعلوم أن تلك الأشكال تقود إلى الدمار والتخلع الاجتماعي، وإلى مزيد من الاحتقان والحقد والكراهية والتنابذ.
إنَّ عدم إدراك هؤلاء لطبيعة وآليات العلاقات الاقتصادية والمالية، ونتيجة فقدانهم أدنى المعايير الأخلاقية يجعلهم يصارعون من أجل استمرار الأزمة. مع العلم أن توظيف الأموال يحتاج إلى الاستقرار. لكنّهم يخافون ذلك، لأن عودة الاستقرار بالنسبة إليهم تقترن بالمحاسبة والعقاب وفقدان مصادر النهب التي يسيطرون عليها أو يستفيدون منها. ومن أهم تلك المصادر محطات الوقود التي تحولت بعد سيطرتهم على بعضها إلى مصادر للنهب والإثراء لهم وإلى من يواليهم. إضافة إلى ذلك فإن بعضاً من تلك المجموعات بقيادة أشخاص تحولوا زمن الصراع إلى زعماء حرب يذلون السوريين وينهبونهم من خلال الحواجز التي يسيطرون عليها. وهؤلاء أصبحوا يمتلكون ثروات خرافية، ويعمل بعض من هؤلاء حالياً على احتكار الموارد النفطية والزراعية الأساسية مثل الحبوب وغير ذلك من خلال وسطاء يسهّلون لهم شراء المحاصيل الزراعية والموارد النفطية من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة وغيره من المجموعات الإرهابية، ويتكفل هؤلاء وغيرهم بإيصال تلك المواد إلى حيث يريد الزعماء الجدد. وهذا يعني أنهم يتحكمون بالموارد التي تخصُّ حياة المواطن اليومية وبشكل خاص التي تتعلق بالأمن الغذائي والمعيشي. وهذا بالضبط يجب ألا تُفرّط به الدولة، ويجب أن يبقى تحت سيطرتها، لأن تلاعب زعماء الحرب وتجارها بتلك الموارد يعني حدوث كوارث إنسانية تفوق ما نشهده حالياً. ويتزامن ذلك مع تكليف بعض ضعاف النفوس بمهام توزيع مخصصات المواطنين من حوامل الطاقة. وهؤلاء باتوا من وجهاء المجتمع وأغنيائه وأصحاب حظوة بعدما كانوا معدمين لا يستطيعون تأمين قوت يومهم، ومهمّشين لا أحد يهتم لأوضاعهم. وذلك نتيجة تهريب حوامل الطاقة وبيعها بأضعاف السعر الذي تُحدده الحكومة. أما في ما يتعلق بمظاهر الخطف بغية تحصيل المال وأشياء أخرى، فإنها تحوّلت إلى ظاهرة تفقأ العين. لكنّ الملاحظ أن الكبار من زعماء الحرب لم يعودوا يولون أهمية لذلك، فأصبحت عمليات الخطف والتعفيش من اختصاص عناصرهم الذين باتوا يمتلكون شبكات اتصال وحماية وسلاح. ومستقبل هؤلاء إذا لم تتم محاسبتهم، سيكون مشابهاً لأوضاع قادتهم. وقد تحولت تلك المجموعات إلى سلسلة مترابطة تتحكم بمفاصل الحياة اليومية وتفاصيلها. ونتيجة تكاثرها الأرنبي المرتبط بفوضى السلاح، وتراجع مستوى الرقابة والمسألة. فإن كثيراً من عناصر تلك المجموعات وبعض من قادتها يمارسون أبشع الانتهاكات بحق المدنيين. هذا في وقت يُفترض أن يكون سلاحهم مخصصاً لحماية مناطقهم والدفاع عن المدنيين. وواقع الحال يدلل على أن ارتكابات هؤلاء لا تقل إرهاباً عما تقوم به المجموعات الإرهابية في مناطق يدعي البعض بأنها محررة.
إن ما يطفو على سطح المشهد السوري من مظاهر كارثية، يطال كثيراً منها الاقتصاد السوري وآليات اشتغاله وآفاق تحولاته. أما مشاركة من يغتني من نهب السوريين وتجويعهم وإفقارهم في رسم معالم المستقبل فإنه يُنذر بمرحلة من التخلف والانحطاط لم يشهدها التاريخ. حينها لن يكون 12 مليون سوري فقط يحتاجون إلى مساعدات إنسانية بل كامل المجتمع السوري سيكون تحت خط الفقر المطلق. ولن تقف حدود الهجرة واللجوء عند حدود الأرقام المعلنة، لكنّ كثيراً من السوريين سيتركون وطنهم لأطراف وقوى لا همَّ لها سوى النهب والتسلط وارتكاب الجريمة. حينها فقط لن يكون في سوريا وطن أو مواطن، بل أكوام من الخراب والدمار الإنساني. ولدرء ما نحذّر منه، فإن السوريين بأمسِّ الحاجة إلى التماسك لمواجهة سارقي أرزاقهم وأحلامهم وآمالهم، وذلك يجب أن يتزامن مع مواجهة التدخلات الخارجية، والعمل على إنهاء الصراع والتوافق على حل سياسي ديمقراطي وطني يعيد إلى الوطن وحدته واستقلاله.
* باحث وكاتب سوري
المصدر: الأخبار