تركيا والمسألة الأرمنية
اليوم الجمعة هي الذكرى المئوية للمجازر التي ارتكبتها الدولة العثمانية في عام 1915 بقيادة جمعية الاتحاد والترقي ضد الأرمن والتي ذهب ضحيتها عدد كبير منهم ممن قتلوا وهجروا من أماكن سكنهم الأصلية في شرق الأناضول إلى سوريا ولبنان وكل العالم .
وعلى امتداد مئة عام ولاسيما في العقود الأخيرة نجح الأرمن في أن يكسبوا اعتراف عدد كبير من الدول في أن ما جرى "إبادة" . ومن هذه الدول فرنسا وإيطاليا وحتى لبنان حيث اكثر من مئة ألف لبناني من أصل أرمني جاؤوا إليه من الأناضول . مئوية عام 1915 كان مقدراً لها أن تكون حافلة بالتحديات لصورة تركيا في العالم . لكن الأتراك على ما يبدو فوجئوا بمواقف لم تكن في الحسبان . مثل موقف بابا الفاتيكان فرنسيس، بكل ما يعنيه موقعه، الذي اعترف بحصول "إبادة" في عام 1915 قبل أسبوعين ورأى أنها أولى الإبادات في القرن العشرين، على اعتبار أن ما فعله هتلر باليهود هو إبادة أي هولوكوست وكذلك ما جرى في كمبوديا أيام الخمير الحمر وفي رواندا في إفريقيا . ومن بعد البابا اتخذ البرلمان الأوروبي أيضاً قراراً باعتبار ما جرى عام 1915 إبادة . الدول التي اعترفت رسمياً بالإبادة تزيد على 22 دولة فيما البرلمانات التي اعترفت بذلك اكثر من ذلك بكثير . الذكرى المئوية لمجازر 1915 جعلت من تركيا أكثر عزلة على الصعيد الدولي . فبعد سقوط مشروعها في المنطقة وخروجها منها ها هي عزلتها الدولية تتسع وصورتها تزداد سوءاً . ربما يجد الأتراك المبررات للقول إن مواقف الغرب "صليبية" وتعود إلى الصراع الدموي بين الغرب ولا سيما الأوروبي والسلطنة العثمانية . لكن النهج الذي مارسته السلطات التركية بعد انهيار السلطنة مروراً بأتاتورك وصولاً إلى حكم حزب العدالة والتنمية كان مسؤولاً عن الصورة السلبية الملتصقة بتركيا اليوم . حيث إن كل الأقليات الدينية والعرقية عانت الاضطهاد المزمن من الأرمن وصولاً إلى الأكراد . ومع أن تركيا احتكت بأوروبا ودخلت في مسار تفاوضي للدخول إلى الاتحاد الأوروبي غير أن معايير المواطنة والمساءلة لم تجد طريقها إلى التنفيذ فكان التمييز وسياسة إلغاء الآخر، كل آخر، سواء في تركيا أو خارجها . إن أكبر الأخطاء الاستراتيجية في تركيا اليوم أنها لم تحاول الاستفادة من الالتفاف الذي تشكل حول سلطة حزب العدالة والتنمية في بداية عهده وكانت النتيجة أنه مارس سياسات أسوأ من سابقيه داخلياً وخارجياً ورأى أنه خارج أي مساءلة ومحاسبة فشرع في ممارسات غير إنسانية تجاه أقلياته في الداخل وتجاه جيرانه في محاولة لإحياء العثمانية التي ثار بوجهها في مطلع القرن العشرين العرب والأرمن وغيرهم . ليس أمام تركيا اليوم خيارات كثيرة . لقد اضطهدت العرب والأكراد والأرمن . والمسألة الأرمنية ليست مجرد "حادثة" سير بل تمس بقوة وعمق الضمير الإنساني والقيم الأخلاقية . هل كثير على تركيا أن تعتذر من الأرمن فتتصالح مع التاريخ ومع نفسها؟ لنقرأ ما كتبه علي بيرم أوغلو الكاتب المعروف والذي يدعم سلطة حزب العدالة والتنمية ويكتب في صحيفة الحزب "يني شفق" . أنه رغم كل هذا كانت له الجرأة بأن يكتب ما يلي: "عام 1915 هو تاريخ ترحيل الأرمن وطردهم من هذه الأرض . وفقاً لدفاتر طلعت باشا فالعدد ينزل من مليون ونصف المليون إلى 300 ألف . كم منهم هُجّر وكم منهم مات على الطريق وكم منهم قتل؟ المزاعم مختلفة . التاريخ يتحدث أيضاً عمن أصعدوا إلى المراكب وخنقوا وسحقت رؤوسهم بالحجارة . يجب ألا ننسى أن التاريخ في هذه الأرض ليس فقط تاريخ فئة أو هوية أو ضحية . لكننا ننسى . تمر الذكرى المئوية، وأنا اعتبرها إبادة، في انطفاء وركود لا يعكس تركيا المتحولة . ليس من برنامج تلفزيوني واحد مستقيم وليس من نقاش ولا من حركة للمجتمع المدني ولا أفلام ولا وثائق . من الفائدة معرفة هذا: "إن المصالحة مع التاريخ تحررنا"، يختم علي بيرم أوغلو . نعم، إن إعادة الاعتبار للضمير والوجدان والأخلاق والقيم الانسانية لا يضعف الدول والشعوب بل يقوّيها . فهل تعتبر تركيا وغير تركيا؟
المصدر: جريدة الخليج