هل يقوى المجتمع الأردني على مواجهة التطرف؟
برغم بشاعة ما جرى للطيار معاذ الكساسبة على يد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ــ «داعش»، إلا أن الحدث كان مرآة تتيح للأردنيين رؤية صورة «داعش» الكائنة في نفوسهم من خلالها.
قد يكون الوصف قاسياً في هذه الفترة تحديداً، لكن الحقيقة طبعها قاسٍ دائماً.
وما أن انتشر خبر حرق الطيار الأردني، حتى انتفض ناشطون على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بحرق أفراد جماعة «الإخوان المسلمين»، التي يصب عليها الأردن الرسمي جام غضبه في الفترة الأخيرة.
ولا ينكر أحد أن الجماعة كان لها دور في نشر الفكر المحافظ في البلد، لكن هل هي المتهم الوحيد؟
البعض ذهب إلى المطالبة بجمع وإحراق كتب ابن تيمية بدلاً من الدخول في نقاش لنقد فكر «الإخوان» وكتب التراث بجرأة، بعيداً عن تابوهات الماضي.
ولعل ردود الفعل هذه، الصادرة عن شباب متعلمين وناشطين، ومنهم من له حضور في الاعتصامات التي ترفع شعارات «الحرية» و «الديموقراطية» و «الاصلاح»، تجعلنا نفهم لماذا خرج من بين أكتاف الشعب الاردني اشخاص مثل أبي قتادة الفلسطيني منظر «التيار الجهادي» العالمي الأبرز، وأبي مصعب الزرقاوي مؤسس تنظيم «القاعدة» في العراق، والذي تعتبر «داعش» امتداداً له، وكثيرين غيرهما.
ولكن، من أين أتى الأردنيون بهذه الرغبة في «الحرق» والإقصاء؟
ثمة سنوات من البناء النفسي والعلمي تعرضت له الأجيال في هذا البلد، جعلته يحيا بعيداً عن قيم التحضر الحقيقية، بسبب ظروف سياسية فرضت في منتصف القرن الماضي، فتمت صياغة بيئة بأكملها، ليكون هذا المجتمع ممراً لفكر محافظ مجافٍ لقيم التقدم الاجتماعي.
وكانت المناهج التعليمية من بين أبرز القنوات التي أمدت المجتمع بهذه القيم، وما دام الأردن السياسي يحارب قيم التطرف جوّاً، فعليه أن يحاربها «براً»، ليس عبر القوات العسكرية البرية، وانما عبر التصدي لكل ما من شأنه أن يخلق أرضية صالحة لنضج التطرف، الذي ينتشر في المجتمع الأردني منذ عشرات السنوات كالفطر.
ظروف سياسية فرضت الفكر المتطرف
حركة «الإخوان المسلمين» التي تتعرض اليوم لهجوم من الأردن الرسمي، كانت بالأمس الحليف رقم واحد، وهي التي أتيح لها بفضل مساندتها له في وجه القوى الثورية والتقدمية، فتح أبواب في الدولة الأردنية كانت حراماً على غيرها من التنظيمات السياسية.
وبالرغم من أن الفارق بين تنظيم «القاعدة» وما نشأ عنه، وبين «الإخوان المسلمين»، يتلخص برفض الأخيرة الانقلاب على الحاكم، الا أن القاسم المشترك بينهما هو «إقامة شرع الله».
وتحت هذا البند، يمكن إنشاء أجيال يجمعها مع التيارات التكفيرية قواسم فكرية مشتركة، وبشكل خاص اذا تمكنت الحركة الاسلامية من الدخول إلى وزارة التربية والتعليم، وهو ما كان ممكناً وميسراً لها منذ خمسينيات القرن الماضي.
ويروي نائب الأمين العام لـ «الحزب الشيوعي الأردني» فرج الطميزي لـ «السفير» طرفاً من تجربته، إذ خدم في وزارة التربية والتعليم ثلاثين عاماً في قسم المناهج، وعايش فترات حضور الحركة الاسلامية وفكرها في المناهج التعليمية، حيث تم حصر التاريخ العربي بالمنجز الإسلامي وحده.
ويقول الطميزي إنه «في العام 1962، كانت الحركة الاسلامية هي التي وضعت فلسفة وزارة التربية والتعليم، وفيها نص واضح بأن فلسفة التربية والتعليم تقوم على استقراء واستمزاج كل شيء من التراث العربي الإسلامي»، مبيناً أن ثمة تاريخاً عربياً غير إسلامي تم اقصاؤه عمداً، ليتخيل الطالب أن تاريخنا كان إسلامياً، بما يسهل تأسيس فكرة «الدولة الإسلامية» في ذهنه في ما بعد.
ويتحدث الطميزي عن تجربة خاصة عاشها أثناء وضع منهج الجغرافيا في العام 1976، حين كان عضواً في المناهج، إذ تم الاستغناء عن خدماته بعد جلستين فقط، لمجرد أنه وضع معياراً يقوم على الأسلوب العلمي في البحث. ولأن المنهج كان يتحدث عن دول أفريقيا، قدم الطميزي حراك كوامين كروما على أنه ثورة، فيما اعتبره موظفون في المنهج محسوبون على الحركة الاسلامية حركة تمرد وعصيان.
التطرف في الصغر.. كالنقش في الحجر
وبرغم عرضها لنصوص ترسخ في ذهن الطالب مفهوم «الدولة الإسلامية»، إلا أن معلمة اللغة العربية سلوى حماد تقول لـ «السفير» إن ثمة معلمين يعتنقون الفكر المحافظ الذي لا يختلف كثيراً عن طرح «داعش» والجماعات الإسلامية. وتتوقف عند خطورة مفهوم (الدولة الإسلامية، الحضارة الاسلامية) من دون ذكر تفاصيل الحضارة العربية، قائلة إن «هذا الطرح يرسخ الفكر الإقصائي عند الطلاب، فيعتقدون أن المجتمع العربي كله إسلامي، ولا يتخيلون أن هناك أبناء ديانات وأصحاب معتقدات فكرية أخرى في المجتمع».
حماد واجهت أحد طلابها عندما سألها قائلاً: «صح يا مس داعش منيحة، مش متل ما بقولوا عنها؟».
وتتساءل حمّاد أنه «في سياق مناهج تتحدث عن الدولة الاسلامية ولا شيء غيرها، كيف سيرى الطالب داعش التي تطالب بتأسيس خلافة إسلامية؟».
والطالب لا يدرس النصوص الإقصائية في كتاب التربية الإسلامية وحده، بل في كتاب اللغة العربية، فيقرأ طلاب الصف الرابع قصيدة حافظ إبراهيم «أعيدوا مجدنا دنيا ودينا ... وذودوا عن تراث المسلمينا».
وفي الأردن، عندما يبدأ درس التربية الإسلامية، فإن الطلبة غير المسلمين يخرجون من القاعة، أما هنا فعلى الطالب المسلم وغير المسلم بالدرجة ذاتها أن يردد بيت الشعر هذا في درس اللغة العربية، فكيف هو جيل المستقبل وماهي رؤيته لبلده والمنظومة الاجتماعية فيه؟
إعداد المجتمع للاستهلاك «الداعشي»
تعتقد حمّاد بخطورة تدريس آيات العقاب والثواب في المناهج الدراسية للأطفال في مراحل مبكرة، فمثلاً نجد أمثلة للحديث عن مكافأة المؤمنين بالجنة وعقاب الكافرين في الصف الرابع الابتدائي (9 سنوات)، لأن ذلك سيكون على حساب الحديث عن الفضيلة كأساس أخلاقي.
ومن ناحية تخصصية تتطرق أخصائية الصحة النفسية للأطفال زينة أبو عناب قائلة لـ «السفير» إن «فكرة الجنة مجردة جداً، فالطفل غير قادر على فهمها برمزيتها الواسعة إلا بعد 12-13 سنة، لكن في المقابل يبدو العقاب واضحاً له وملموساً وهو النار، ولابد أنه جربها واكتوى بها في مرات عابرة في حياته، فترسخ العقوبة بالبال، ومن هنا يصبح أي تصرف له نابعا عن الخوف».
وحالة الخوف هذه وفق أبو عناب تخلق بيئة من القلق ستؤثر على خيارات وحياة الانسان مستقبلا، فهو حتما سيخشى خوض تجارب جديدة خشية «النار»، وفي بعض الحالات يمكن أن يصل لمراحل قلق عالية تجعل الإنسان في شبابه يفعل اي شيء ليتخلص من هذا القلق.
ولعل ما سبق، يفسر حالات الانسياق الأعمى من قِبل شباب متعلمين إلى تنظيمات مثل «القاعدة» و «داعش»، فهي تقدم حلاً افتراضياً ينهي ذلك القلق ويضع له حداً بالجنة بعد الموت.
هنا تؤسس المناهج لآلية تفكير تحصر المواطن في إطار «القطيع»، هنا توضع الحدود الأولى للفرد، لكن ثمة حدودا أخرى يتم وضعها لتمنع الفرد من التفكير بالخروج عن دائرة «القطيع» نهائياً، وهي حصر المواطن في المرحلة الثانية والمتوسطة من مراحل التطور الأخلاقي وفق أبو عنّاب، إذ أن المرحلة الأولى من النمو أو التطور الاخلاقي تبدأ بتحديد القيم بناء على مفهوم المصلحة البحت، في حين أن المرحلة الثانية والتي يتوقف غالبية أفراد المجتمع عندها، وهي التي تُسهل تطويع الشباب للالتحاق بأي حركة أو تنظيم هي مرحلة تبني القوانين التي يفرضها المجتمع، فيتعلمها الفرد ليلتزم بها ليس إلا.
وهنا يكون سهلا للفرد أن ينضوي أسفل أي مجموعة بدون تفكير نقدي ما لم ينتقل للمرحلة الثالثة وهي المرحلة الاسمى في النمو الأخلاقي، إذ يصبح حكم الاخلاق لدى الفرد ناتجاً عن مفاهيم لها علاقة بالعدالة والمساواة، وبناء على هذه المفاهيم يقوم بنقض وتقييم الجماعات والمجتمعات التي ينتمي إليها. ولأن غالبية أفراد المجتمع مازالوا في المرحلة الوسطى من النمو الأخلاقي وأفراده لا يجرؤون على النقد الاخلاقي فإن الشباب يصبح لقمة سهلة وسائغة في فم التنظيمات الارهابية والمتطرفة.
وهنا تظهر المشكلة، فالمناهج القائمة على التلقين والإقصاء، لا تدفع بالفرد إلى المرحلة الأسمى من النمو الاخلاقي. بلغة أدق، فإن المجتمع لم ينضج أخلاقياً بعد.
التطبيع مع إسرائيل عثرة في مسيرة تعديل المناهج!
يبدو أن الأردن الرسمي يعي خطر المادة الدينية المتطـــرفة الموجــودة في المـــناهج، ويطمــح إلى تعـــديلها، لكنه لن يعدل المادة المتطرفة وحدها، بل ثمة حديث عن إضافة نصوص تطبيعية مع العدو الإسرائيلي، ما يجعل «التطبيع» عثرة تواجهه في مسيرة تعديل المناهج. فـ «الإخوان» يستفيدون من فكرة التطبيع لمجابهة تطوير المناهج، بحسب نائب الأمين العام لـ «الحزب الشيوعي الأردني» فرج الطميزي.
«نحن نهرب من تحت دلف الإسلاميين إلى مزراب الأجانب والتطبيع مع العدو الإسرائيلي». بهذا الوصف يستأنف الطميزي الحديث عن وسيلة التغيير، قائلًا: «نحن بحاجة إلى ثورة بيضاء، وهذه الثورة بحاجة إلى أمرين في غاية الأهمية، وهما: استحداث أدوات قادرة على تغيير البنية التنظيمية في مديرية المناهج ولجان المناهج، وأن لا تستعين الوزارة بالخبراء الأجانب الذين سيكونون مصدرًا لنصوص تطبيعية يرفضها المجتمع الأردني برمته، وحتى لا تُستخدَم مناهضةُ التطبيع سلاحًا وذريعة لوقف آلية تطوير المناهج المدرسية».
المصدر: السفير