العمر المُقَنَّن
تُلازمُ المواطنَ السوري مجموعة من الأزمات والمصاعب والعقبات التي يولد في ظلها ويستمر في العيش في أتونها حتى يغادر الحياة ولا تغادره هذه الأزمات، فيورثها إلى أبنائه ليتابعوا عيشها من بعده، معتقدين أن الحياة على هذه الشاكلة، وما تتضمنه من فقر وفاقة وبطالة وفقدان للحرية وتقنين لوسائل العيش من كهرباء وماء ومحروقات هي الحياة الطبيعية لمجموع البشر الآخرين على سطح هذه الكرة الأرضية.
ولا أدل على هذا الشيء سوى ما ظهر بداية الحراك المطلبي في البلاد في آذار من العام 2011 حين ألغي العمل بقانون الطوارئ. ولم يكن الكثير من أبناء الشعب السوري يعلمون شيئاً عن ماهية وتعريف حالة الطوارئ التي كانوا يعيشون في ظلها، أو عن أحكامها، معتقدين أن هذه هي الحالة الطبيعية التي تحكم علاقة كل أبناء البشر في كل البلدان حول العالم مع حكوماتهم. وهو أمر يفسر أكثر ما يفسر، أولاً جهل المواطن السوري بحقوقه أو واجباته أو جهله بالحال التي تحكم حياته ويعيشها من دون أن يفكر في جذورها أو بالذي قاد لها. ويفسر ثانياً مدى توحد هذا المواطن مع الحالة التي يعيشها والتي أصبحت طبيعية بالنسبة له.
ومن تقنين الكهرباء والماء الذي تعاني منه حتى المناطق الواقعة على تخوم الأنهار ومخارج الينابيع، انتقل التقنين إلى المشاريع التي قلت وانحسر الكبير والمنتج منها. فخلال عشرات السنين زحفت الشركات الخدمية والتجارية لتحل محل الشركات الصناعية الكبيرة التي كانت البلاد أحوج إليها. أما الشركات التي كانت في طور الإنشاء فقد توقف العمل بمعظمها ليجري التقنين في استكمال إشادة أخرى أكثر حظاً، ولتنحسر استثمارات الحكومة إلى الحد الأدنى فاسحة الطريق في وجه الاستثمارات الخاصة التي غالباً ما كانت صغيرة أو فروعاً لشركات كبيرة عابرة للقارات ينحصر همها بتدوير رأسمال المال في سبيل الربح الأسرع.
يعيش المواطن السوري هذه الأيام أزمات كثيرة، تعتبر طبيعية، وهي نتائج للمقدمات التي استجدت خلال سنوات الحرب التي شارفت على الأربع، وما قبلها من سنوات عمره الذي ذهبت في حصار اقتصادي وأزمات اقتصادية وقانون استثمار على مقاس الأغنياء وما يرافقها من أزمات معيشية. فإضافة لحالة الحرب والقتل اليومي عبر القصف والذبح والتفخيخ والبراميل المتفجرة والتهجير والنزوح وغيرها، من جميع ضروب الكوارث التي عرفتها البشرية. إضافة إلى كل ذلك تأتي الأزمات المعيشية التي لا تبدأ مع المدخول الذي تآكل بفعل تدني القيمة الشرائية لليرة السورية، لتنتهي مع أزمة الكهرباء وفقدان الغاز المنزلي وبقية المحروقات التي يشل غيابها حياته. وجاء قرار الحكومة بتصدير المنتجات الزراعية إلى روسيا وإيران مؤخراً ليزيد الطين بلة، وليخلق تخمينات ومخاوف لدى الكثير من المواطنين، أن تقنيناً في الغذاء آت لا محالة مع هذا القرار الذي سيفرغ الأسواق من هذه المنتجات، ويفرغ ما بقي من آمال لدى قلة من السوريين.
ويلاحظ أنه حتى المناطق الآمنة، أو الموالية للنظام، التي تعيش حياتها بعيداً عن الحرب الدائرة في المناطق الأخرى لم تسلم من هذه الأزمة. فقد أصبح الحصول على قارورة غاز منزلي من أحلام المتفائلين لدى غالبية الناس. وأتى فقدان مادة المازوت وحتى البنزين مع بداية موسم البرد ليشل حركة السير والأعمال نتيجة عدم قدرة سائقي الحافلات على تأمين المادة لتسيير حافلاتهم ونقل الناس إلى أعمالهم، ما شكل عملية تعطيل لعمل مؤسسات الدولة، وغيرها من المؤسسات، التي يعجز عن تعطيلها أي إضراب مهما بلغ منظموه من قدرة على التحشيد.
في منطقة من المناطق الآمنة والموالية للنظام، قالت لي إحدى الصديقات: إن الأهالي هنا يعيشون حياتهم بشكل روتيني. يذهبون إلى أعمالهم بكل سلاسة. يعودون بعد أن يتبضعوا ويؤمنون حاجيات منازلهم. ينتظرون دورهم لتأمين جرار الغاز ومخصصات مازوت التدفئة، ينتظرون رواتبهم آخر الشهر، يعيشون بسلام وطمأنينة.. ويخططون لمغادرة البلاد.