مستقبل البلدان العربية وحتمية التغيير
بصرف النظر عن المآل الراهن للحراك الشعبي المعارض في بعض البلدان العربية، بات مطلب التغيير الديمقراطي استحقاقاً لا مفر منه، لكن ما هي وجهة التغيير المطلوب وشروطه وأدواته.
المعارضون والمؤيدون لما يصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي"، الذي أطلقه الحراك الشعبي المعارض في تونس، يقرّون على حد سواء بأن ما كان قائماً في النظام السياسي العربي، بمختلف ألوانه، لم يعد ممكناً الاستمرار فيه، أو إعادة عقارب الساعة إلى وراء في البلدان التي عصفت فيها الحراكات الشعبية المعارضة لأنظمة الحكم، والخلاف في فهم التغيير ومداه ينحصر في العمق الممكن أن يذهب إليه، واتجاهه وأدواته والزمن المطلوب للشروع به وتحقيقه موضوعياً، وبالطبع هذه ليست قضية هامشية أو شكلية، لكن من المهم والمفيد النظر إليها من زاوية الإقرار المبدئي بهذا الاستحقاق.
لذلك يصح القول: ما قبل عام 2011، ليس كما بعده بالنسبة للأنظمة السياسية العربية كلها، رغم الصورة القاتمة في غالبية البلدان التي لحقت بقطار حراك تونس الشعبي المعارض، ضد نظام حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
فما وقع خلق وعياً جماعياً بضرورة التغيير الديمقراطي وإمكانيته. ولأول مرة في التاريخ الحديث، يمتلك الشارع الشعبي العربي القدرة على الحراك المعارض، بزخم هز مسَلْمات الماضي القريب. إلا أن حداثة التجربة؛ وافتقار البلدان العربية إلى بنية مجتمع محلي ناضجة ومتطورة، بفعل سنوات طويلة من الاستبداد؛ وضعف وتشويه الثقافة السياسية؛ وابتعاد المجتمع عن العمل السياسي والاشتغال به؛ وبالتالي تشوه بنية النخب السياسية والمجتمعية، كواحدة من منتجات الاستبداد؛ كل ذلك قاد إلى إخفاقات وانحرافات في البلدان التي حدث فيها التغيير، ومكَّن القوى المتطرفة على جانبيه، وأوقف زحفه إلى البلدان الأخرى في المدى المنظور، وأدى إلى عودة فعل وتأثير أدوات الدولة العميقة، تحت عباءة جديدة- قديمة، وغرقت بعض تلك البلدان في صراعات دموية ودوامات عنف.
غير أن الخروج من هذه الصراعات ودوامات العنف غير ممكن إلا بحلول سياسية جذرية وخلاقة، امتلاكها القابلية للنجاح والحياة يفرض أن تستجيب بحدود كافية لمطلب التغيير الديمقراطي، وهذا ينطبق من حيث المبدأ أيضاً على البلدان التي لم تشهد حراكات شعبية معارضة على نطاق واسع، إنما ينبغي التدقيق في ماهية التغيير المطلوب ومضمونه واتجاهه.
وإذا كان ليس من الصواب تجاهل أهمية توافر نسق مجتمعي داعم للتغيير في الاتجاه الصحيح، ويمتلك خاصية تنظيم نفسه، ورافض للعنف، فليس من الصواب كذلك الاعتقاد بأنه يمكن تعليق تأخير هذا الاستحقاق على شماعة الانقسام المجتمعي وعدم نضج البنية السياسية والمجتمعية لتقبل عملية التغيير بسلاسة وتنظيمها، فمثل هكذا اعتقاد لا يولد سوى حاضنة خصبة للفوضى والانجراف نحو ممارسة أشكال من العنف المنفلت من عقاله.
الخطأ في التقدير جعل رئيس أحد البلدان العربية يخرج بتصريح شهير مطلع عام 2011، قال فيه بما معناه: إن بلده بحاجة إلى سنوات طويلة حتى تكون جاهزة للبدء بالتغيير، وكان حينها (موقناً) بأن رياح "الربيع العربي" لن تصل إلى بلده، لكن ما جرى بعد أسابيع قليلة شكَّل صدمة له وللجميع، على الأقل لجهة سرعة الأحداث وتطورها، ولم تفلح التنازلات التي قدمها نظامه في منع تفاقم الأزمة، ولو قدِّمت في وقت مبكر لتغيرت المعادلة جذرياً.
المشكلة في أن غالبية أنظمة الحكم فكرت بالطريقة ذاتها، لإعفاء نفسها من قراءة معاني الحراك الشعبي المعارض، ولإغلاق الأبواب أمام زحف التغيير الديمقراطي، وإن بدا البعض منها اليوم مطمئناً أكثر مما سبق، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تبقى العديد من المؤشرات في غير صالحه، لاسيما في ظل عدم الإقدام على أي إصلاحات دستورية وسياسية ذات شأن، تهدئ من حالة الاحتقان المجتمعي الظاهر أو المبطن، والثاني أخطر بكثير من الأول.
إن ما وصلت إليه الأنظمة السياسية العربية من أفق مسدود، في وضعها القائم، جاء نتيجة عملية تراكم تاريخي من الأخطاء في إدارة دفة الحكم، جعلت استحقاق التغيير الواعي والهادف استحقاقاً راهناً، ناهيك أنه حتمي في الصيرورة التاريخية للبشرية، في العصر الحديث، وهو الدواء لداء الاستبداد والتخلف السياسي والمجتمعي، في آن معاً، ودرء للتطرف بمختلف أشكاله ومنابعه، الديني والمذهبي والإثني والعرقي والقومي، بل هو شرط لتصالح شعوب البلدان العربية مع ذاتها وتاريخها، والتخلص من ثقل موروث الاستبداد والعنف والتخلف في البنيتين السياسية والمجتمعية.
ويحضرنا دائماً النموذج التونسي في التغيير الديمقراطي والتعددية الحزبية- المجتمعية، بنسخته السباقة والملهمة لكل النماذج العربية الأخرى، والأكثر تطوراً، كمعطى لحقيقة تطور بنية المجتمع المحلي التونسي ومستوى ثقافته السياسية السائدة، بالقياس إلى باقي المجتمعات في البلدان العربية الأخرى، وخاصة ما يتعلق بأوضاع المرأة وتمكينها من حقوقها، والدور الذي تلعبه، وتأثير ذلك على بنية المكونات السياسية- الحزبية وبرامج عملها واشتقاقاتها السياسية، بما فيها خوض العمليات الانتخابية وإدارتها والتعامل مع نتائجها، ومقدار حيادية مؤسسات الدولة السيادية، وهي قضية نسبية عموماً توافر في الحالة التونسية القدر الكافي منها.
وفي قراءة معاكسة للنموذج والتجربة التونسية، يعزى فشل التجارب العربية الأخرى، التي لحقت بالحراك الشعبي التونسي المعارض، إلى افتقارها لبنية سياسية- مجتمعية متطورة، قادت إلى انحرافات في مسار التغيير وأدواته المستخدمة، باللجوء إلى العنف الدولتي والعنف المضاد، أكثرها نفوراً النماذج العراقية والسورية والليبية واليمنية، التي وصلت إلى درك دائرة مفرغة من الصراعات الدموية، تشعبت فيها وجوه العنف، ونبتت وتمددت على حوافها التنظيمات المذهبية والإثنية والعرقية المتطرفة، إلى أن صارت رقماً صعباً في المعادلة، يصب في كفة السلبيات والمساوئ، حيث يضرب وحدة المجتمعات وقيمها ويهدِّد مستقبلها.
إن ما يستمد من قراءة النموذج التونسي بالاتجاهين، ربطاً بخصوصيته والنماذج الأخرى، يدعو لاستخلاص العبر بما يزكي ضرورة التغيير وراهنيته، وليس العكس، لكن مع مراعاة خصوصية واحتياجات كل تجربة على حدة، ودرجة الأزمة التي وصلت إليها، وهذا يخلع على عملية بناء الديمقراطية وإشاعة التعددية السياسية صعوبات كبيرة، التغلب عليها يتطلب خرائط طريق عبر حلول سياسية، بأهداف واضحة وملزمة نحو تغيير حقيقي يستجيب لتطلعات الشعوب، ويهدم مرتكزات العنف والتطرف ويجفف منابعه، ويمنع التدخلات الخارجية، وهذا يشمل كل الدول العربية بلا استثناء.
المصدر: صوت روسيا