في أصول فراغ عربي يحتله «داعش»
البحث في معتقدات «داعش» وما يدور في رؤوس جماعته، أو في تمويله وأشكاله التنظيمية، هو بحث في الفروع غالباً ما يحمل في طيّاته طلاسم خارقة يحرص التنظيم على ترويجها على لسان أعدائه. فما يقوم به «داعش» بمنهج ذبح الأبرياء على الهوية أو تدمير معالم الحضارة المتراكمة، لا يفسّره معتقَد أعوج أو مال فاسد. فهو منهج موات نقيض لاستمرارية الحياة في تاريخ بلادنا القديم التي يدلّ عليها تراكم الفعل الإنساني في نشاطاتنا الحياتية وثقافاتنا التعددية.
معتقدات «داعش» التي يستلهمها من الشيخين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما، هي واجهة إيديولوجية تغلّف مشروع السلطة والتسلّط في محاولته احتلال الفراغ العربي الجيو ـ سياسي والفكري عبر بثّ الرعب على أنقاض الدول المنهارة والبلدان الخربَة. وهو يعلّل دوافع زيادة الخراب خراباً، استناداً إلى أحداث هامشية في التاريخ الإسلامي القديم، أصّلها بعض رجال الدين لأسبابهم في خدمة مآرب سلطات الحكم الفاسدة. فابن تيمية المنكوب بنكبة «حرّاء» أيام التتار، حرّكه دافع نكبته، فذهب به إلى الانتقام من كل ما يجول في نفسه المصابة بالرهاب، مستنداً إلى أحداث عرَضيّة في التاريخ الإسلامي، جعلها منهجاً عاماً معيناً في نقمته. ففي رسالته إلى الملك الناصر التي نقلها الحافظ بن الهادي في العقود الدرّية بعد حملته على «الرافضة» في جبل لبنان (وقتها شملت كل من يتعارض مع صقور الحنبلية كما يقول الشيخ عارف الزين)، يستند ابن تيمية إلى أقاويل رواها «خاص الناس وعامهم» ومنها قولهم «لم نجد في جبلهم مصحفاً ولا قارئاً للقرآن». فهو يطلق العنان لمخياله في حكايته عن غزو التتار والصليبيين، للدعوة إلى قتل كل أهالي الجبل الذين يراهم «شرّاً من التتار في وجوه عديدة». لكن ابن تيمية لم يؤثر في أهل السنّة والجماعة من الشافعية والمالكية والحنفية ولا في علماء هذه المذاهب. بل إن تلميذه الحنبلي الحافظ الذهبي قرّعه في بيان «زغل العلم والطلب»، كما انتقده معاصروه شرّ نقد ومنهم أبي الفرج عبد الرحمن الجوزي الحنبلي. ولم يؤثر أيضاً في سياسة حكم المماليك الذين أفتى لهم، فما قام به هؤلاء في صراعاتهم على المُلك وفي اضطهاد جماعات طائفية أو اثنية ليس في حقل الفتاوى والمعتقدات، بل هو في حقل تاريخ الحكم ذاك الزمان وصراعاته الاجتماعية والجيو ــ سياسية، كما لا يخفى على باحث مبتدئ في علم التأريخ. وعلى مثال ابن تيمية ينتقم الشيخ محمد بن عبد الوهاب جرّاء خروجه من العيينة إلى الدرعية، هرباً من حاكم الإحساء حيث تلقفته حاشية محمد بن سعود في ظروف صراع مرير بين حكام أقاليم الجزيرة العربية على السلطة، بهدف نصرته عليهم. فهو على ما قيل له «غنيمة فاغتنم ما خصّك الله به». والتقط ابن سعود الغنيمة مشترطاً خدمته طول العمر بـ«أن لا يرجع عنه إذا نصرهم الله ومكّنهم». ولم يكن الشيخ أقل وضوحاً في معاهدته بطاعة أميره على «الدم بالدم والهدم بالهدم» كما يقول. لكن الأثر الذي تركته الحركة الوهابية في العالم العربي والإسلامي، كان غير ذي بال قبل انهيار الحركة الاستقلالية العربية وقبل فيض مآثر الحكم السعودي، الذي استقى من فتاوى الوهابيين و«المعتدلين» أو حتى «دعاة التنوير» ما يعزّز سلطته ونفوذه، بل أفتى له هذا وذاك ما تلقيه عليه عهدة الطاعة والولاء.
فالمعتقدات والأفكار والإيديولوجيات التي تبدو منزّهة عن الغرض هي أكثرها وضاعة في المصالح الخاصة (بيار بورديو). فهي حركة في الفروع، يأخذها معظم العاملين في ما يسمى «الشأن العام» على أنها الأصل الذي يحكم سبُل العمران وأحوال المعاش، خدمة لمأرب تمجيد رأسمالهم الرمزي. لكن النفخ في نار الفروع يعكس إدقاع بعض النخب التي تقرأ الظواهر الاجتماعية والسياسية من رأسها بالفكر والمعتقدات والثقافة، في ظنّها قراءة الظواهر من الماضي إلى الحاضر. وهي قراءة لا ترى غير رأس جبل الجليد تحت مياه المحيط، على ما نرى من أقاويل تتوافق بشكل أو بآخر مع أقوال «داعش» في معرض تأييده أو نقضه. بيد أن «داعش» ليس قيادة التنظيم التي تجول في رأسها معتقدات يقول بها هذا أو ذاك من دعاة التذابح بين الجماعات الطائفية، كما ظهرت دوماً على مرّ العصور. ولا هو مجرد تقاطع مصالح بين دول تدعمه بالمال والغطاء السياسي، بل هو ظاهرة في قاعدة الهرم العريضة ولّدتها أحوال انهيار العمران في سياق التحولات الدولية والإقليمية، فأفضت إلى استقطابه العديد من شرائح الفئات الوسطى والدنيا على مدى العالمين العربي والإسلامي. وهي ظاهرة مكرورة في ظروف مشابهة من تاريخ صراعات اجتماعية وجيو ـ سياسية عميقة في أوروبا الغربية التي تمخّضت عما هو معروف من تطهير عرقي ـ ديني أُطلق عليه تسمية «الحروب الدينية». ففي مثل هذه الصراعات الاجتماعية والجيو ـ سياسية المأساوية يصعد أشباه «داعش» كما صعدت «الفاشيات» في مآسي الحروب، على أنقاض خراب المجتمعات والبلدان الذي أصاب فئات واسعة برهاب الفراغ فولّد اليأس والبؤس في نفوسهم همجية النحر والانتحار.
هذه الفئات التي تغذي «داعش» بزهرة شبابها من الانتحاريين والذباحين، كانت حتى الأمس القريب تغذّي، بمعظمها، حركات الاستقلال السياسي وحركات التغيير الاجتماعي والقومي. لكن هذه الحركات السياسية فشلت في الحكم والمعارضة بتغيير الأسس المؤسّسَة لانهيار الدول وتذابح الجماعات، ولم تستطع تياراتها المعارِضة لاحقاً أن تجدّد نفسها في الدفاع عن الحقوق السياسية والاجتماعية والوطنية. فالفراغ الجيو ـ سياسي الذي أحدثه تحوّل المنظومة العربية من منحى الاستقلال السياسي إلى منحى التبعية، في منتصف السبعينيات، صاحَبَ فراغ معارضات التغيير والدفاع عن الاستقلال السياسي، فأفضى الفراغان إلى غابة ما لبثت أن أصبحت فوضاها منظومة طبيعية.
وفوضى الغابة التي ترعرع «داعش» في أرضها الخصبة قامت على تفكيك أسس منظومة التعدد الاجتماعي والثقافي والطائفي والاثني التي زخرت بها المجتمعات «المتخلّفة» ثروة إنسانية، حتى انتهاء مرحلة الاستقلال السياسي في أواسط السبعينيات. فهذه المجتمعات حفظت بُنى بقاء التعدد واستمراريته في المعاش المحلي الصغير الريفي والمديني، وفي نواحي السكن والتجمعات، ما أتاح لها البقاء في ممارسة طقوسها وثقافاتها الخاصة. لكن «الانفتاح» على أثر هزيمة الحركات الاستقلالية في منتصف السبعينيات، قلب هذا التوازن رأساً على عقب في مسار تهميش قيَم الثروة الإنسانية الموروثة، لمصلحة قيَم منظومة تمركز ثروة الريع والتجارة في أيدي القلّة المنفتحة على الاستيراد والتصدير في السوق الدولية. هذا المنحى الذي أخذ طريقه إلى جميع البلدان العربية في سياق تحوّل المنظومة الدولية منذ منتصف السبعينيات (وصايا البنك الدولي، الإصلاحات الهيكلية، الديون، استراتيجية السلام....) استفحل في منتصف التسعينيات حيث كان احتلال العراق مختبر التحوّل النيوليبرالي المعولَم، الذي انفجرت معه الفاشيات الحديثة في كل أرجاء المعمورة، وليس «داعش» منه غير القشّة التي قصمت ظهر البعير.
هو تحوّل استهدف إلغاء دور الدولة بصفتها ناظم المشترَك الأعلى بين مجمل الفئات الاجتماعية والثقافية المتباينة. وعلى حطامها رست منظومة التبعية لنموذج الغابة النيوليبرالية الذي يقوم على توزيع نهب الثروات الإنسانية الموروثة والثروات العامة المتراكمة، وعلى محاصصة فُتات النهب بين أجنحة الطبقة السياسية ونخبها في السلطة. وعلى الرغم من الثورات العربية لتغيير هذه المنظومة نحو تغيير نموذج الفراغ الجيوــ سياسي وإعادة بناء الدولة، نجحت الطبقة السياسية ونُخبها في ثورتها المضادة لتجديد المنظومة في الاحتراب على إصلاح طربوش السلطة وهندامها. وبمقدار ما أنتجت هذه المنظومة احتراباً على الفُتات من فوق، أنتجت تذابحاً على التقاط فُتات الفُتات من تحت. فـ«داعش» هو حصيلة منظومة هذه المتغيرات العميقة، لكنه جزء من أجزائها الأكثر وحشية في تقاطعه مع مصالح الدول التي أرست منظومة التذابح، إذ يتقاطع معها على تمزيق أجساد ضحايا المنظومة، كما يتقاطع مع مصالح الدول الاقليمية الملحقة بالتبعية لاستراتيجيات ومصالح الغابة الدولية. غير أنه كباقي الحركات الفاشية القديمة والحديثة المنفجرة طولاً وعرضاً، يسعى إلى ملء الفراغ الجيو ـ سياسي بالتطهير العرقي والديني، وفي العودة إلى الأصول «النقيّة»، وفي إشعال فتيل قنبلة الهويات القاتلة.
المعركة ضد «داعش» هي معركة حفظ البقاء واستمرارية الحياة، دفاعاً عن الوجود في هزيمة الهمجية بالقتال على الأرض وجهاً لوجه. لكن هذه المعركة جزء من حرب أوسع وأضنى لتجفيف منابع «الداعشية» في الفراغ الجيو ـ سياسي، الذي يزيده الصراع الاقليمي على توسّع النفوذ، خواء في الفضاء العربي. وما أوهام المحافظة على الحدود «الوطنية»، في ما يسمى «سيادة الدولة» التي تتذرّر في العصر النيوليبرالي، سوى روافد «داعش» القوية التي تغذّي حلوله الفاشية في توحيد «الأمة». فحجر الزاوية في منحى إعادة بناء الدولة الوطنية في سياق الاندماج الاقليمي، هو تفكيك التبعية للنموذج النيوليبرالي ولا سيما تفكيك أسس انهيار الدول وخراب المجتمعات في حرية الرأسمال الكبير وزيادة النمو والتصدير، والوصفات المقدسة الأخرى لما يسمى المنافسة في السوق الدولية. فتوطين أسباب المعاش وسبُل العمران في الحقل الاقليمي، يتيح إعادة بناء دور الدولة الناظم لمصلحة الجماعة الوطنية، ويتيح تناغم تعدّد الجماعات المنتجَة للثروة الاقتصادية والثروات الانسانية على السواء.
أصول همجية الذبح، تنبع من قاعدة جبل الانهيار والخراب، لا من رأسه ولا من رأس «داعش».
المصدر: السفير