«المجمع الصناعي الطبي الأمريكي» ... أفضل استثمار على الإطلاق، هو الاستثمار بالأطفال المرضى!
تقدم الانتخابات الأمريكية، وخاصة الرئاسية، فرصة للتعرف أكثر على الحالة الفعلية للنظام الأمريكي على المستويات كافة، على ألسنة المرشحين الرئاسيين وفرقهم الانتخابية ووسائل الإعلام التي تعمل معهم. وكذلك فهي فرصة لتقديم مزيد من الأرقام والدلالات على عملية التآكل والتعفن التي تعيشها المنظومة الأمريكية ككل. تطرقت عدة مواد سابقة في قاسيون خلال الأيام العشرة الماضية، أي منذ انتهاء الانتخابات الأمريكية وصدور نتائجها، إلى مؤشرات واستنتاجات عدة في هذا السياق العام. وفي هذه المادة نفرد المساحة لتناول إحدى الخطب الانتخابية للمرشح الرئاسي روبرت كينيدي جونيور، الذي انتقل قبل أيام قليلة إلى سحب ترشيحه عملياً والانضمام إلى حملة ترامب، ضمن اتفاق بينهما بات واضحاً بعد إعلان ترامب أن كينيدي سيكون عضواً ضمن فريقه، متخصصاً بالشأن الصحي ضمن الإدارة القادمة.
النقطة الرئيسية في المواد السابقة التي نشرتها قاسيون، هي أن النظام الأمريكي يتم رفضه بشكل متزايد من قبل شريحة من الأمريكيين، وتزداد توسعاً، في إطار عملية تعفن النظام الرأسمالي الذي يمثله الغرب المتراجع بقيادة الولايات المتحدة. وكما ذكرت بعض تلك المواد، قد لا يكون هذا الرفض للمنظومة بالضرورة عن علم، إلا أن رفض عناصرها أو ما ينتج عنها وعن سياساتها، هو رفض شعبي للمنظومة بشكله العملي والملموس.
عودة إلى الانتخابات الأخيرة، ومن خلال الخطابات التي سبقتها وبالتحديد من قبل حملة ترامب الذي فاز فيها، يمكن استنتاج أنه بالإضافة إلى التأثير الكبير الذي يتمتع به اللوبي الصهيوني في أمريكا وانتخاباتها، وكذلك المجمع الصناعي العسكري، يبدو أن الأضواء بدأت تتسلط بشكل أكبر على قطاع صناعة الأدوية، أو ما يسمى بـ «Big Pharma» والتي تعني شركات الأدوية الكبرى، أو المجمع الصناعي الطبي، والتي بات هناك كلام أكثر وأوضح عن نفوذها وتأثيرها ضمن المنظومة من خلال الصناعة الدوائية، وبات هناك الكثير من الكلام حول هذا الموضوع، لدرجة أن الحملة المضادة تحاول ترويج مصطلح «نظرية المؤامرة الكبرى للأدوية» لتشويه سمعة أي شخص يشير إليها، وتقويض مصداقيته، ونزع الشرعية عنه.
المرشح الرئاسي روبرت كينيدي جونيور، والذي انسحب عملياً من الترشح كما أسلفنا ودعم ترامب في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات، يُعتبر من الشخصيات العامة التي تدعم الفكرة القائلة بتوسع نفوذ شركات الأدوية الكبرى في أمريكا، وبالأخص تأثيرها على السياسة من خلال قدرتها على التحكم بحيوات الناس، وكان هذا الموضوع أساسياً خلال حملته الانتخابية، ولاحقاً عندما انضم إلى حملة ترامب، حيث استخدم شعار «اجعل أمريكا متعافية مرة أخرى» أو «Make America Healthy Again»، وهو شعار كانت له أصداء كبيرة بين داعمي ترامب لأنه يشبه شعاره الأساسي، «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» أو «Make America Great Again». وبات هذا الموضوع يحظى باهتمام عدد كبير من الأمريكيين لارتباطه المباشر بعدد من الظواهر المتفاقمة في المجتمع الأمريكي، ما يجعله ورقة سهلة الاستخدام في أمور مثل: الانتخابات لتحريك القاعدة الشعبية، بالأخص عندما يتم ربط هذه الأمور مع «الخصم»، وسنعود لاحقاً إلى هذه النقطة.
المجمع الصناعي الطبي الأمريكي والإنفاق الطبي
يحتاج النظر في هذا الموضوع لدراسات موسعة وتفصيلية، ولكن يمكن تسليط الضوء على بعض الأرقام والمعلومات، والتي تم استخدامها خلال الحملة الانتخابية، لما لها من تأثير كبير على الجماهير، وبالأخص عند ربطها بالاقتصاد وبأمور تمس حياة الأمريكيين بشكل مباشر وملموس:
• جائحة الـ «كورونا»: تعامل الحكومة الأمريكية مع الجائحة، والذي لم يختلف كثيراً عن طريقة تعامل معظم دول العالم معها، بل إنها في عدة جوانب لم تشمل إجراءات أكثر صرامة من تلك التي تم فرضها في بعض الدول التي تعافت إلى حد كبير من التداعيات الاقتصادية للجائحة، بل إنه يمكن القول: إنه في كثير من الجوانب، لم تكن بعض الإجراءات في أمريكا على المستوى المطلوب. من الجدير بالذكر هنا أن ذروة الجائحة كانت خلال رئاسة ترامب الأولى، ومع ذلك تم استخدام هذه الورقة بشكل أكبر من قبل حملة ترامب، ولاقت أصداءً واسعة ضمن جمهوره الذي كان بالمجمل ضد أي إغلاقات أو قيود أو الالتزام بارتداء الكمامات وضد اللقاحات، ليس لقاح «كورونا» فحسب، ولكن إلزامية أي لقاحات. وتم التطرق في الحملة إلى التأثير السلبي للإجراءات التي اتخذتها الحكومة على التعليم (بسبب إغلاق المدارس) والوضع الاقتصادي لأصحاب الأعمال والتجار الصغار، في حين نمت ثروات أغنى الناس والشركات الكبرى.
• الأمراض المزمنة: يعرّف «المعهد الوطني للسرطان» الأمريكي، المرض المزمن على أنه «مرض أو حالة تستمر عادة لمدة 3 أشهر أو أكثر وقد تتفاقم بمرور الوقت. تميل الأمراض المزمنة إلى الحدوث لدى كبار السن ويمكن السيطرة عليها عادةً، ولكن لا يمكن علاجها. أكثر أنواع الأمراض المزمنة شيوعاً هي: السرطان وأمراض القلب والسكتة الدماغية والسكري والتهاب المفاصل». ووفق بعض التعريفات، فإن الأمراض المزمنة تشمل كذلك بعض الأمراض النفسية والتوحد والبدانة والربو. وبحسب إحدى الدراسات في عام 2020، «يعاني حوالي 50٪ من سكان الولايات المتحدة من مرض مزمن، مما يشكّل وباءً، كما أن 86٪ من تكاليف الرعاية الصحية تُعزى إلى الأمراض المزمنة... وعلى مدى العشرين عاماً الماضية، نما انتشار الأمراض المزمنة في الولايات المتحدة بمعدل ثابت يتراوح بين 7 إلى 8 ملايين شخص كل 5 سنوات». ودراسة أخرى من عام 2018، تقول: إن «الأمراض المزمنة تعدّ من بين أكثر الحالات الصحية انتشاراً وتكلفة في الولايات المتحدة. ما يقرب من نصف (حوالي 45٪، أو 133 مليوناً) من الأمريكيين جميعهم، يعانون من مرض مزمن واحد على الأقل، والعدد آخذ في الازدياد». وتظهر دراسة أخرى من 2016 أن نسبة البالغين في الولايات المتحدة الذين يعانون من أمراض مزمنة هي الأعلى في العالم في مقارنة بين 11 دولة «مشابهة»، من بينها كندا وفرنسا وألمانيا ودول غربية أخرى، حيث إن النسبة 28٪ بينما النسبة الثانية هي 22٪ في كندا وأقل من 20٪ في الدول الأخرى، وفي الوقت ذاته، الولايات المتحدة تنفق على الرعاية الصحية أكثر من أي دولة أخرى، حيث كانت نسبة الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2018، 16,9٪، بينما الدولة التالية سويسرا، كان الإنفاق 12,2٪. وفق كينيدي في خطاب جماهيري له قبل الانتخابات بأيام، كانت نسبة الأمراض المزمنة في الولايات المتحدة في الستينيات 6٪ بينما وصلت إلى 60٪ اليوم. وفيما يلي بعض الأمراض أو الحالات المزمنة التي تفاقمت خلال العقود الماضية في الولايات المتحدة.
• البدانة: نسبة الأطفال والمراهقين في الولايات المتحدة الذين يعانون من السمنة بين عامي 1971 و2018 ارتفعت للأطفال بين الأعمار 2-5 سنة من 5٪ إلى 13,4٪، وللأطفال بين الأعمار 6-11 سنة من 4٪ إلى 20,3٪، وللمراهقين بين الأعمار 12-19 من 6,1٪ إلى 21,2٪، وفق إحدى الإحصائيات. ووفق إحصائية أخرى، فإن معدلات السمنة لدى البالغين في الولايات المتحدة في عام 2022، كانت 32,8٪، ولكن هذه النسبة أعلى بين السود والسكان الأصليين وذوي الأصول اللاتينية، وأقل بين البيض والآسيويين، ويجدر بالذكر هنا، أن الفئات الثلاث الأولى لديها وسطياً دخل أقل من الفئتين الأخيرتين. وبحسب إحصائية أخرى، ارتفعت نسبة البالغين الذي وزنهم أكثر من 90 كغ، من 15٪ في 1990 إلى 33٪ في 2023. وللمقارنة، وبحسب منظمة الصحة العالمية، «حوالي 16٪ من البالغين الذين تبلغ أعمارهم 18 عاماً فأكثر في أنحاء العالم جميعها يعانون من السمنة في عام 2022... والأطفال والمراهقون الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و19 عاماً... في عام 2022، يعيش 8% من الأطفال والمراهقين مع السمنة».
• التوحد: انتشرت شائعة وبشكل كبير خلال السنوات الماضية، وبالأخص في ظل ازدياد عدد الأطفال الذين تم تشخيصهم بالتوحد، بأن اللقاحات التي تُلزم الدولة الأطفال بتلقيها هي التي تسبب التوحد، ومع ذلك لا توجد حتى الآن أي دراسات علمية أو طبية– في الولايات المتحدة أو غيرها– تربط الأمرين ببعضهما البعض بشكلٍ واضح، ولكن لا يمكن إنكار زيادة عدد الأطفال الذين لديهم هذا التشخيص مع مستويات مختلفة من الشدة. وتُظهر إحدى الإحصائيات مقارنة في انتشار اضطراب طيف التوحد في الولايات المتحدة من عام 2000 إلى عام 2020، حيث كانت 6,7 من بين كل 1000 طفل، ووصلت إلى 27,6 في عام 2020. وللمقارنة، تقول مقالة أخرى حول الموضوع من عام 2023: إن هناك طفلاً واحداً من بين كل 36 في الولايات المتحدة على طيف التوحد، بينما في العالم، فالرقم هو طفل واحد من بين كل 100.
• السكري: وفق تقرير لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أو «CDC» وهي المؤسسة الوطنية الأمريكية المعنية بالصحة العامة، زاد معدل الإصابة بالسكري من النوع 2 بشكل كبير بين الأطفال من عمر 10-19، خلال الفترة 2002-2018، حيث ارتفع تقريباً من حوالي 10 بين كل 100 ألف طفل إلى حوالي 15. وللمقارنة على أساس الإنفاق لمعالجة السكري، في عام 2021، تظهر إحدى الإحصائيات أن إنفاق الولايات المتحدة كان 379,5 مليار دولار، بينما كان في الصين في العام ذاته 165,3 مليار دولار، على الرغم من أن عدد المصابين بالسكر في الصين يفوق عدد أولئك في الولايات المتحدة.
يقول كينيدي ضمن هذه الحملة التي تسلط الضوء على الجانب الصحي: إن الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي تعدى بعدة أضعاف الإنفاق العسكري، وتكمن وراءه شركات صناعة الأدوية، وكذلك السياسات الغذائية التي تتسبب بتفاقم البدانة في أمريكا، إضافة إلى ظهور وتفاقم عدد من الأمراض النفسية، وبالأخص لدى الأطفال، مثل: اضطراب نقص الانتباه «ADD» واضطراب فرط الحركة، ونقص الانتباه «ADHD»، وحالات وأمراض أخرى باتت واسعة الانتشار، كما يضيف أن هناك تضخماً هائلاً في عدد أمراض المناعة الذاتية والتي لم يكن بعضها حتى معروفاً قبل 50 عاماً. كما سلط الضوء على ازدياد أعداد الأشخاص، وبالأخص الأطفال الذين لديهم حساسيات من بعض أنواع الطعام والربو، إلخ.
ما الذي يعنيه هذا كله؟
هناك ما يكفي من المؤشرات والمعلومات، والتي لم تبدأ بالظهور فقط مؤخراً، بل إن عدداً من الشخصيات العامة، الطبية والسياسية، بدأت بالحديث بشكل أكبر منذ حوالي العقدين، عمّا تقوم به شركات الغذاء والدواء والمجمع الصناعي الطبي، وبالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية، وفيما يصب في جعل الأمريكيين أقل صحة بشكل عام، وزيادة اعتمادهم على الأدوية والطبابة، ما يجبرهم على شرائها، ويبرر تمويل الأبحاث حول معظم هذه الأمراض، ويزيد تكاليف الخدمات الصحية، والتي تتحكم فيها شركات الضمان الصحي التي تزيد رسومها كلما كان وضع الشخص الصحي أسوأ، ويوجد ما يكفي من الفضائح حول بعض الأدوية التي تمت الموافقة عليها من قبل الوكالة الحكومية المختصة– إدارة الغذاء والدوا – وبحسب بعض هذه الفضائح، كانت هناك شخصيات منتخبة وعلى مستويات عالية متورطة في صفقات لتمرير موافقات لإنتاج بعض الأدوية والعقاقير والأغذية، التي تسببت بحالات وصلت لدرجة الإدمان والموت، مقابل دعم سياسي لوصول الشخص إلى المنصب.
ومن المهم هنا التنويه أن هذا الموضوع لم يبدأ في السنوات القليلة الماضية، وأن هناك ازدياداً في فضح هذه القضايا أمام الرأي العام الأمريكي، ووصول أفضل للمعلومات لمن يريد أن يصل إليها، ويمكن حتى القول: إن نتائج الانتخابات الأخيرة هي لحد كبير تصويت ضد هذه الأمور، إضافة إلى الأمور التي سلطنا الضوء عليها في المواد السابقة حول الانتخابات الأمريكية.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه تصويت ضد الديمقراطيين ولصالح الجمهوريين، كما يحاول البعض تفسيرها، وبالأخص كما يحاول الجمهوريون وأنصار ترامب تفسيرها، وذلك لأن هذه الأمور ليست جديدة، ولكن تم استخدامها بشكل أكبر في هذه الانتخابات، وكأنها ظهرت خلال السنوات الأربع الماضية، ولكن كما تدل الأمثلة التي أوردناها هنا، فهي في تصاعد مستمر منذ عقود.
هذه الانتخابات، كما سابقتها وتلك التي قبلها، وعلى الأقل منذ نهاية رئاسة أوباما، وبشكل متزايد وواضح، تظهر الخلل المتفاقم في المشهد السياسي الأمريكي، حيث إن الناخب الأمريكي أخرج المنظومة القائمة، أو الإدارة الحاكمة على الأقل في الانتخابات الثلاثة الماضية، بما فيها ترامب نفسه في انتخابات 2020. بكلام آخر، الانتخابات هذه السنة أخرجت بايدن والديمقراطيين، ولكن التي قبلها أخرجت ترامب والجمهوريين والتي سبقتها أخرجت أوباما والديمقراطيين، ما يعني أن النتائج ليست لصالح هذا أو ذاك، بل هي ضد السياسات والنخب الحاكمة كلها، ولكنها تتقلب من دورة إلى أخرى بين رأس الأفعى هذا أو ذاك، وهذا فقط يعني أن الشعب الأمريكي يبحث عن بديل ما زال غير موجود ضمن هذه المنظومة، وإلى ذلك الوقت، ستبقى المنظومة ذاتها بوجهيها المختلفين شكلياً فقط، إلى أن يصل التآكل الداخلي إلى ذاك الحد الذي سيسبب انهيار المنظومة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1201